رحيل وضّاح فارس… مصوّر بيروت الجميلة

مدة القراءة 5 د


وضاح فارس ليس كأيٍّ من أبناء جيله العراقيين:

أوّلاً لأنّه ليس عراقياً تماماً (أمّه سوريّة).

وثانياً لأنّه لم يعش في العراق (كانت بيروت مدينته الأثيرة).

وأخيراً لأنّه غادر حدود موهبته الفنّية التي يمكنها أن تجلب إليه شعوراً بالغرور ليكون صاحب مشروع يسلّط من خلاله الضوء على مواهب الآخرين. والعراقيون نادراً ما يفعلون ذلك.

غير أنّ وضّاح فارس كان عراقياً بطريقة مخاتلة. طريقة يغلب عليها الوفاء والشكر والامتنان والأريحية والكرم. فحين افتتح قاعته “كونتاك” في ستّينيات القرن الماضي ببيروت، فتح ذراعيه لاستقبال أعمال فنّاني جيله الذين كانوا يومها مغمورين، لم يسمع بهم أحد في العالم العربي. عراقيّة فارس تفجّرت في مغامرته تلك. أمّا حين استقرّ به الحال في باريس بعد جنون الحرب الأهلية في لبنان وافتتح صالة فنّية حملت اسمه فإنّه صبّ كلّ اهتمامه على استضافة أعمال فنّية من العراق ولبنان.

وضّاح فارس كان عراقياً بطريقة مخاتلة. طريقة يغلب عليها الوفاء والشكر والامتنان والأريحية والكرم

مبتكر أحداث وصانع أمزجة

لزمن طويل أخفى فارس شخصيّته الحقيقية بثياب رجل الأعمال، جامع الأعمال الفنّية وتاجرها والمروّج لها. لقد استهوته مهنة أن يكون صانع أحداث ومنظّم علاقات. قال لي قبل سنوات حين عرّفني بجامع أعمال فنّية ببيروت: “هذه مهنتي”.

لم يخفِ اعتداده الصوريّ سخريته من شعوره بأنّ الحياة قد تكون ركنته جانباً بعدما عاش زمناً طويلاً في قلبها باعتباره صانع أحداث ومحرّك أمزجة. ليس لأنّه عمل في مؤسسات إعلامية وثقافية عريقة مثل صحيفة النهار، ولا لأنّه ارتبط بصداقات عظيمة مع أدباء ومفكّرين وفنّانين كبار مثل غسان تويني وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وعارف الريّس والقائمة تطول، بل لأنّه قبض على بيروت وهي مدينته المثالية في أعمق لحظات تجلّيها الجمالي واستطاع أن ينقلها من الواقع إلى الصور التي كانت مسرحاً لخياله الفذّ.

بيروت الساحرة والمحظوظة

لا يمكنك لكثرة ما التقط فارس من صور، كلّها مشوّقة وحيوية وعميقة الدلالة، أن تتابع ما يعرضه عليك، على الرغم من أنّك ستشعر بالأسف لأنّك لم تتلقّ الدرس كاملاً. كلّ لقاء بوضاح فارس كان بالنسبة لي درساً في التاريخ الجمالي الخفيّ لبيروت. فالرجل الذي عمل مصمّماً صحافياً ورسّام ملصقات وناقداً فنّياً حرص على أن لا يحترف التصوير على الرغم من أنّه كان في إمكانه أن يجني ثروة ضخمة من بيع الصور التي التقطها وتمثّل مقطعاً بانورامياً لزمن الحداثة وتفجّر تجلّياتها، وهو ما أضفى على بيروت طابع “المدينة الكونيّة”.

غير مرّة انتبهت إلى أنّه حين يقول “المدينة” فإنّه يقصد بيروت. فلا مدينة في العالم سواها.

ساحرة بيروت ومحظوظة في الوقت نفسه. ساحرة لأنّها من المدن التي تهب فرصة التقاط نوع استثنائي من الجمال يمتزج فيه الحسّي بالروحيّ لمَن قرّر أن يخترق طبقاتها، ومحظوظة بوفاء كلّ من يتمتّع بذلك الجمال. ولقد حظيت بفرصة صداقة اثنين من كبار محبّيها، الرسّام أمين الباشا (1932 ــ 2019)، وصديقه وضاح فارس الذي غادرنا قبل أيام (ولد عام 1940). لقد سبقهما الكثيرون إلى ذلك التمرين العاطفي. بيروت أحبّها الكثيرون، وكانت عميقة في إلهامها.

غادر وضاح فارس، في لحظة تعب بيروت، ورحيلها عن “صناعة المشهد” وتراجع قدرتها على “تحريك الأمزجة”. تماماً مثل وضاح. لكنّه هو وبيروت سيبقيان في الصور التي في بالنا

رأى وجهه في مرآتها

“بيروت مدينة من نسيج رغبات العالم”. كان ذلك هو عنوان المعرض الذي أقامه صالح بركات لجزء من أرشيف وضاح فارس الفوتوغرافي عام 2017. المعرض الذي استغرق الإعداد له سنوات عديدة لم يكن إلا مختارات فنّية ألقى من خلالها زوّاره نظرة على مدينة لم تعد موجودة. فإن كان وضاح فارس مولعاً بالوجوه، شغوفاً بإظهار ملامحها التعبيرية، فإنّه في الوقت نفسه حاول أن يؤرّخ لحياته العاطفية التي خلقت معنى للمفردات اليومية التي تتألّف منها الجملة الطويلة التي تمّ اختزالها فصارت “بيروت”.

التقط وضاح صوراً لبيروت، شوارعها وبيوتها وأزقّتها وأسواقها ومقاهيها، وكان يسعى من وراء ذلك إلى النظر إلى وجهه في مرآتها.

هل كان يودّ أن يرسمها كما لو أنّها تخرج لتوّها من البحر كما فعل صديقه أمين الباشا؟

الثقة بالفنّ وفنّ العيش

لم ألتقِ في حياتي رجلاً يملك الرغبة في أن يفتح الطرق أمام الآخرين مثل وضاح فارس. كان كريماً وهو يضع تجربته كلّها على الطاولة من غير خوف أو تردّد. لم يكن يخفي شيئاً. لم تكن “الكلمات المتقاطعة” لعبته. كان يقول الجملة كاملة من غير ثغرات. عاش عصره كما لو أنّه يختصر كلّ العصور في عاطفة أخويّة ليس من اليسير الدخول إلى خرائطها بالنسبة للكثيرين. كان فارس في كلّ ما يفعله صاحب مكيدة، هدفها الحبّ. أحبّ بيروت وحبّبها لمَن يعيشون فيها من غير أن يهتدوا إلى الممرّات التي تقود إلى جمالها الكامن.

إقرأ أيضاً: في وداع رياض الترك… انتصرت الديكتاتوريّات؟

ما أعجبني في وضاح فارس حين التقيته وكان كلّ شيء من حوله يدعو إلى الإحباط واليأس أنّه لم يكن ركاماً من الذكريات. كان استمتاعه بالحياة أكبر من شعوره بأنّ بيروت قد غادرت فتنتها. لم يكن يودّ أن يكون مصوّر الماضي. كانت ثقته بالفنّ تعينه على العيش.

غادر وضاح فارس، في لحظة تعب بيروت، ورحيلها عن “صناعة المشهد” وتراجع قدرتها على “تحريك الأمزجة”. تماماً مثل وضاح. لكنّه هو وبيروت سيبقيان في الصور التي في بالنا.

* كاتب عراقيّ

مواضيع ذات صلة

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…