مع دخول العالم العام الجديد (2024) تكون الولايات المتحدة الأميركية قد دخلت عام الانتخابات الرئاسية. المرشّحان الوحيدان حتى الآن هما الرئيس الحالي جو بايدن عن الحزب الديمقراطي، ودونالد ترامب عن الحزب الجمهوري. ولكنّ معركة الرئاسة هذه المرّة مرشّحة لتقرير مصير العالم، وليس الولايات المتحدة وحدها، أكثر من أيّ وقت سابق.
– أوّلاً: الحرب الروسية – الأطلسية في أوكرانيا، وهي حرب تناقض وجهتَي نظر ترامب وبايدن فيها. الأوّل يعتقد أنّه قادر على حلّها سياسياً بما له من علاقات شخصية مع الرئيس بوتين. ويريدها الثاني أداة لإسقاط بوتين وكسر الشوكة الروسية لتثبيت دعائم عالم يقوم على هيمنة القوة الواحدة، أميركا وحلفائها.
– ثانياً: التوتّر المتصاعد عسكرياً في تايوان بين الصين والولايات المتحدة. الرئيس السابق ترامب يعتقد أنّ التضحية بالعلاقات الأميركية مع الصين من أجل جزيرة صغيرة لا معنى له، وأنّه مضيعة للجهود والإمكانات، وأنّه استجرار لصراع، وحرب، لا مبرّر ولا فائدة منه. وعلى عكس ذلك، يرى الرئيس بايدن أنّ تايوان ليست مجرّد جزيرة صغيرة، بل إنّها الواجهة الأمامية للديمقراطية في شرق آسيا، وأنّ الدفاع عنها هو بمنزلة الدفاع عن القيم الديمقراطية الغربية، وتالياً عن مصالح العالم الحرّ.
– ثالثاً: الشرق الأوسط والصراع العربي – الإسرائيلي الذي جرى تقزيمه تدريجياً حتى أصبح، أو كاد، مجرّد صراع فلسطيني – إسرائيلي خاضع لمساومات أميركية – إيرانية تتراجع أحياناً وتتقدّم أحياناً أخرى وفقاً للمزاج المتغيّر في البيت الأبيض بواشنطن مع تغيّر الرئيس.
مع دخول العالم العام الجديد (2024) تكون الولايات المتحدة الأميركية قد دخلت عام الانتخابات الرئاسية
من هنا هذه القضايا الرئيسية في العلاقات الدولية، على الرغم من تباعدها الجغرافي، أشبه ما تكون بسلسلة من ثلاث حلقات مترابطة. فهي تؤثّر وتتأثّر بالأسلوب وبالنتائج المترتّبة عن تعامل الرئيس الأميركي المقبل معها أو مع أيّ منها.
ترامب يتقدّم
تقول استطلاعات الرأي (التي أجرتها صحيفة نيويورك تايمز) إنّه في ما يتعلّق بالقضايا الاقتصادية، وهي الأهمّ بالنسبة للناخب الأميركي، فإنّ ترامب يتقدّم على بايدن بنسبة كبيرة: 59 في المئة لمصلحة ترامب مقابل 37 في المئة لمصلحة بايدن.
الاقتصاد هو عصب الحياة في الولايات المتحدة، وهو العامل الأشهر تأثيراً في الانتخابات. وبالفعل تواجه موازنة الدولة الأميركية في الوقت الحاضر عجزاً غير مسبوق في التاريخ باستثناء حالة الحرب العالمية الثانية. فمساعداتها المالية لإسرائيل تقدّم ممّا لا تملك، أي من تراكم متضخّم للديون.
أضف إلى ذلك أنّ الحزب الديمقراطي الذي يمثّله بايدن كان يعتمد بشكل أساسي على أصوات الأميركيين السود والمتحدّرين من أصول أميركية جنوبية. ولكنّ موقف هؤلاء تغيّر الآن وانقلب رأساً على عقب، ليس حبّاً بشخصية ترامب، لكن كراهية بسياسة بايدن.
يشمل هذا التحوّل مواقف الأميركيين المتحدّرين من أصول إسلامية وعربية أيضاً.
الاقتصاد هو عصب الحياة في الولايات المتحدة، وهو العامل الأشهر تأثيراً في الانتخابات
تقوم السياسة الأميركية على قاعدة الجزرة والعصا. لجأ ترامب إلى الجزرة في الشرق الأوسط من خلال مشروع “الطريق الإبراهيمي”. واستخدم بايدن العصا في دعم جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة.
الحسّ الإنساني في أميركا
تأثّر الرأي العام الأميركي في حسّه الإنساني. وشهدت مدن أميركية عديدة تظاهرات تعاطف مع الفلسطينيين المضطهدين ندّدت بموقف الرئيس بايدن بدعم إسرائيل عسكرياً (أسلحة وذخيرة بلا حدود)، وسياسياً (استخدام حق النقض (الفيتو) لحمايتها في مجلس الأمن الدولي). وهو ما جعل إدارته تبدو وكأنّها شريك في الجريمة، خلافاً للعواطف الإنسانية التي أبداها المتظاهرون الأميركيون.. عشيّة الانتخابات الرئاسية.
من هنا عكست استطلاعات الرأي تقدّم ترامب على بايدن على الرغم من كلّ السمعة السيّئة لترامب التي انطلقت من تحريضه على اقتحام مبنى الكونغرس الأميركي، البيت المقدّس للديمقراطية الأميركية.
من هنا إذا نجح ترامب هذه المرّة، فإنّ نجاحه يعني تكريساً لتراجع أو لانتكاسة الديمقراطية الأميركية. وهو ما يعزّز من مواقع قوى دولية من الصين في آسيا حتى دول أميركا الجنوبية.. كما يعزّز من موقف الكرملين في الدرجة الأولى الذي يقود الحملة الدولية لإعادة النظر في النظام العالمي على قاعدة التعدّد.. ويؤدّي تالياً إلى سقوط مبدأ معادلة “حقّ القوّة، وليس قوّة الحقّ”.
عندما استخدمت الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي حقّ الفيتو دفاعاً عن الجريمة الإسرائيلية في غزة، كان ذلك مظهراً من مظاهر حقّ القوّة. وعندما رفعت جنوب إفريقيا (التي عانت طويلاً من العنصرية) دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتّهم فيها إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية ضدّ الشعب الفلسطيني في غزة كان ذلك مظهراً من مظاهر قوّة الحقّ.
من هنا التساؤل: أين يقع العالم العربي من المتغيّرات التي حدثت بالفعل ومِن القادم من هذه المتغيّرات في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية؟
إقرأ أيضاً: إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة؟
أيّ دور عربي في الانتخابات (كما تفعل الهند مثلاً)؟ وأيّ تصوّر لما بعد الانتخابات أيّاً كان الرئيس المقبل؟
التخطيط للمستقبل ليس رجماً بالغيب، بل مشاركة في صنعه.. وتأهّل لمواجهة تداعياته ونتائجه.
أمّا الجلوس مكتوفي الأيدي على قاعدة: “عندما يأتي الصبي نصلّي على النبي”، فتلك سياسة الاستسلام للأمر الواقع.. التي دفع العالم العربي ثمنها غالياً جداً.