2024: سنة أخرى من الاشتياق

مدة القراءة 5 د


لم أعُد أحصي السنوات التي تمرّ مثلما كنتُ أفعل في الماضي، يوم كان لي أمل أن تكون تلك هي السنة الأخيرة وأعود. ولكن إلى أين أعود؟ إلى مكان لم يعُد إليه أحد. لا لأنّ أحداً لا يرغب في ذلك، بل لأنّ ذلك المكان ما عاد موجوداً. سرّ لا يقوله أحد لأحد. يتواطأ الكثيرون على إخفائه لا تحت معاطفهم بل تحت جلودهم.

“سنة وأعود”. أعرف أنّني قلت تلك الجملة مرّة واحدة. قلتها وأنا أعرف أنّني كنت أكذب. ولكنّه الكذب الطيّب. الكذب الذي يرمّم المشاعر ويبقي شجرة الصبّار خضراء على الشرفة. كانت السنة يومها تتألّف من اثني عشر شهراً، بما يساوي 366 يوماً. وهي سنة كبيسة دائماً من أجل أن تكون أطول. ولكنّ السنة بدّلت شتاءها بخريفها واستعانت بصيفها على ربيعها. أمطرت داخل قبعة الرأس وضفرت شعاع شمسها ونام نهارها على مخدّة ليلها الذي وقف مثل حارس يرقات، يقف شعر رأسه حين تستيقظ دودة قزّ من سباتها.

ما دامت قدمي لا تسقط على أرض، ما دامت يدي لا تلمس يداً تعصرها، ما دامت عيني لا تستعير دمعة من عين أخرى، ما دامت أذني لا يستخفّ بها الطرب، وما دام لساني لا يتذوّق طعاماً يعيد إليه ملكات غرامه، فإنّ سنتي لم تنتهِ بعد

كرة الوقت في حقيبة المسافر

“سوف أعود لكم بالحرير”، لم أعد أحداً بذلك، غير أنّ خيوط الحرير كانت تنسج عباءة شفّافة وتضعها فوق عينيّ كما لو أنّني كنت أبكي طوال الوقت. أليست الدموع وسيلة لتجنّب فكرة النزوح من الغبش إلى الفجر؟ ما لم أرَه من تلك السنة كنتُ قد دفنته في تلك البلاد التي لم أحمل منها شيئاً.

لست ممَّن يلعبون بعقارب الساعات ليحتفلوا بدقائق فتنتهم حين ينام الناس. ولأنّني لم أسرق وقتاً أصرّ الوقت على أن يسرقني. السنة الوحيدة التي خبّأتها في حقيبة سفري الفارغة لم تكن لي. لم تكن الحقيبة ثقيلة، وأنا أعرف أنّ حياتي كانت تتدحرج كلّما اهتزّ القطار. أما كان عليّ أن أشدّها بحزام؟ أنساني الخوف أن أرصّها في قعر الحقيبة من أجل أن لا تتفتّت إلى أيام وساعات ودقائق وثوان.

الإقامة بين صفيرين

ربّما لأنّ الخوف لم يروّضني كما لم يخيّل إليّ في لحظة فزع أنّ مسطرة من ثلاثين سنتيمتراً يمكن أن تقيس شهراً من الفلوات التي ترى في شجرة وحيدة جنّة من زعفران ومسك وحوريّات وفواكه دانية وأنهار لبن وعسل وخمر. مرّت حياتي لتُقاس بمسطرة، تقع سنتها بين صفيرين. صفير الروضة التي غسلت قدمي بماء غديرها وصفير الجنّة التي رأيت في مراياها صوراً تشبهني، غير أنّ أيّة واحدة منهما لو عُرضت على أمّي لما تعرّفت عليّ فيها.

لو غادرت من أجل الصور لعدتُ حاملاً ألبوماً مليئاً بالحوريّات الصغيرات اللاتي وضعتهنّ في الشرنقات من أجل أن يتنفّس الحرير هواء بلادي. ولكنّ غصّة أن يكون للمرء بلاد وضعتني في قفّة، دفعتها في المياه. ومنذ ذلك اليوم لم تقع قدمي على أرض. لا تصلح السواحل أن تكون بلاداً. ولكنّني أرى السواحل من غير أن أصل إليها. تلك البلاد النائية لم يرَها حرّاس الحدود في الموانئ والمعابر البرّية والمطارات وهم يمدّون أيديهم الخشنة داخل حقيبتي بحثاً عن السبب الذي يجعل أجراسهم تدقّ. كلّما دقّ جرس أطمئنّ إلى أنّ تلك السنة لا تزال تتنفّس حيّة وتلعب بصبيّة وتمشّط شعرها وهي تنظر إلى مرآة لم يتسلّل إليها ضباب.

لا تصلح السواحل أن تكون بلاداً. ولكنّني أرى السواحل من غير أن أصل إليها. تلك البلاد النائية لم يرَها حرّاس الحدود في الموانئ والمعابر البرّية والمطارات وهم يمدّون أيديهم الخشنة داخل حقيبتي بحثاً عن السبب الذي يجعل أجراسهم تدقّ

سنة الفيل التي لن تنتهي

اشتريت الكثير من الروزنامات أو التقاويم من أجل أن أستدرج السنوات إلى المطبخ من غير أن تكون سنتي من بينها. أمّا لماذا المطبخ؟ فقد كانت لذلك أسباب كثيرة. منها أنّ كلّ سنة تمرّ يمكن سلقها وقليها وتدخينها وشواؤها لتذهب إلى الطاولة مثل ديك رومي مسكين ضلّ الطريق إلى بيته أو مثل سمكة يظنّ البعض أنّها بلا ذاكرة. أمّا سنتي فهي تنزلق على خرطوم فيل يحرص على أن لا يغنّي إلا حين يرغب في الصلاة. كلّ الفيلة التي حملت سنتي كما لو أنّها مهراجا أقامت في حقيبتي كما لو أنّها جزء من ممتلكاتي. هل كنت سأعود على ظهر فيل في خيال حبشيّ؟

مرّت سنوات كثيرة ولم تنتهِ سنتي بعد.

ما دامت قدمي لا تسقط على أرض، ما دامت يدي لا تلمس يداً تعصرها، ما دامت عيني لا تستعير دمعة من عين أخرى، ما دامت أذني لا يستخفّ بها الطرب، وما دام لساني لا يتذوّق طعاماً يعيد إليه ملكات غرامه، فإنّ سنتي لم تنتهِ بعد. ولكنّ أمّي التي وعدتها بأن أعود بعد سنة لم تنتظر. ذهبت مع الملائكة. استجابت لنداء الموت. أيعني ذلك أنّ عليّ أن أنسى حقيبتي في مكان ما كما لو أنّني تركتها في قطار هبطت منه وأنا أخطّط لترك حياتي فيه؟ أسوأ ما يمكن أن أفعله أن أتذكّر عن طريق النسيان.

إقرأ أيضاً: 2023: موسم الهجرة الفرنسية من إفريقيا

النهارات الهاربة بمناديلها

كلّما استقبلت سنة جديدة تكبر سنتي الشخصية. “سأعود إليك يا أمّي”، تلك هي سنتك التي لم تنتهِ. سنة أكبر من حياتي وأكثر سعة من الزمن وأشدّ لمعاناً من ذهب الصمت. في المطبخ أستبدل تقويماً بتقويم وأنا أفكّر بتلك السنة التي اتّفقنا أن نلتقي في نهايتها. وأنا أصدّق أنّك تعيشين إلى نهاية عمري. أنا أعيش في ذاكرة هوائك. أنا هنا مثلما أنت هناك. ولكن ما معنى الـ”هنا” والـ”هناك” حين نقيم في حقيبة واحدة. أنا وأنت مسافران لا ينتظرنا أحد. ليس من الصعب علينا بعدما مزجنا دخان الأربعاء برماد الجمعة من غير أن يكون هناك خميس أن نضيف سنة أخرى من الاشتياق إلى جدول تماريننا. لقد هربت نهارات كثيرة من بين أقدامنا وهي تلوّح لنا بمناديل الأخوات النائمات. سأكون هناك وتكونين هنا. أراك في سنتك التي صارت من هواء وترينني في سنتي التي عبّأ الغبار حقيبتها بأناشيده. وستظلّ تلك البلاد في مكانها الذي لن يعثر عليه أحد.

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…