الكنيسة الكاثوليكيّة وخطر الانقسام… بسبب المثليّين (2/2)

مدة القراءة 7 د


هل شرّعت الكنيسة الكاثوليكيّة زواج المثليين؟ هل شرّعت البركة لارتباطهم؟ هل تعترف الكنيسة بالمثليّة الجنسيّة؟…
أسئلة طرحها الكاثوليك وغير الكاثوليك، المسيحيون وغير المسيحيين إثر صدور إعلان عن “مجمع العقيدة والإيمان” في الفاتيكان حول بركة المثليين (18 كانون الأول 2023).
ازدادت التساؤلات بعد نشر بعض المقالات التي التبس محتوى الإعلان على كاتبيها. هذا ما يدفع لخوض مغامرة الكتابة حول هذا الموضوع الشائك والحسّاس لأنّه موضوع له علاقة بلاهوت الكنيسة الكاثوليكيّة. ولا أدّعي التخصّص في هذا المجال على الرغم من أنّني درست اللاهوت.
على عادة الرسائل والوثائق الفاتيكانيّة، صدر الإعلان بعنوان لاتيني: “Fiducia supplicans”. وهو إعلان حول “المعنى الرعويّ للبركات”. وموضوعه الأساسيّ بركة المثليين!

الزواج فقط بين رجل وامرأة
قبل التطرّق إلى بركة المثليين، شدّد الإعلان على مفهوم الزواج في المسيحيّة ليؤكّد أنّ الكنيسة لا تعتبر بأيّ شكل من الأشكال ارتباط المثليين زواجاً. ولا تعترف بارتباط المثليين. ولا تباركه. فالزواج في المسيحيّة هو فقط بين رجل وامرأة، انطلاقاً ممّا جاء في الكتاب المقدّس “ذكراً وأنثى خلقهم وباركهم الله وقال لهم: “أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض،..” (سفر التكوين، الآيتان 27 و28). وهو ارتباط “ثابت لا يمكن إبطاله” (زواج مارونيّ). هدفه الإنجاب. وهو سرّ من أسرار الكنيسة السبعة. و”العقيدة الكنسيّة في هذه النقطة تبقى صارمة”.

يرتكز الإعلان على نظرة البابا فرنسيس إلى الرسالة الرعوية للكنيسة التي عليها أن تحضن أبناءها لا أن تنبذهم، وعلى نظرته إلى المثلية الجنسيّة التي يعتبرها “خطيئة وليست جريمة”

أضاف الإعلان أن “ليس للكنيسة السُلطان لإعطاء البركة لارتباط شخصين من جنس واحد”. كما لا يمكنها إعطاء البركة لأيّ “ارتباط يدّعي بأنّه زواج كما لا يمكنها إعطاء البركة لممارسة الجنس خارج الزواج”. فهو خطيئة.
ثمّ ينتقل النصّ للكلام عن البركة في المسيحيّة التي هي باتجاهين. بركة من الله للإنسان. وهي نعمة يغدقها الله على الإنسان. وبركة من الإنسان لله. وهي نوع من الشكر والحمد لله على كلّ عطاياه. انطلاقاً من هذا المفهوم، ودائماً بحسب الإعلان، يمكن طلب البركة “للأشخاص، كما لأواني الصلاة والعبادة، وللصور المقدّسة، ولأماكن العيش والعمل، وللثمر…”. وفي القرى يطلب المؤمنون البركة على المياه لرشّها على الحيوانات أو المزروعات، ويمنح الأسقف أو الكاهن هذه البركة لطالبها في الكنيسة كما في الطريق أو في مناسبة اجتماعيّة، بشكل عفويّ ودون طقوس دينيّة.

“بركة عفويّة” لا طقوس لها
شدّد النصّ على أنّ ارتباط شخصين من جنس واحد هو “وضع غير عاديّ” (situation irrégulière)، ولا تعتبره الكنيسة بأيّ شكل من الأشكال زواجاً. بيد أنّ الإعلان تطرّق إلى بركة المثليين انطلاقاً من مفهوم الكنيسة للبركة التي يطلبها المؤمن من الله، وانطلاقاً من مفهوم أنّ “الكنيسة أمّ”. وشدّد على أنّها “بركة عفويّة” لا طقوس لها ولا يجب أن يكون لها أيّ نوع من الطقوس، لا من خلال نصّ دينيّ ولا من خلال لباس خاصّ للكاهن. وأكّد النص أنّها ليست رتبة كنسيّة. ولا يجوز بأيّ شكل من الأشكال الخلط بينها وبين بركة الزواج في الكنيسة التي تُمنح لرجل وامرأة وبالاستناد إلى كلمة “نَعم” يقولانها أمام الكاهن والحضور. وهي “نَعم” مدى الحياة.

المثليّة خطيئة وليست جريمة
يرتكز الإعلان على نظرة البابا فرنسيس إلى الرسالة الرعوية للكنيسة التي عليها أن تحضن أبناءها لا أن تنبذهم، وعلى نظرته إلى المثلية الجنسيّة التي يعتبرها “خطيئة وليست جريمة”.
منذ انتخابه (2013) تطرّق البابا أكثر من مرّة إلى المثلية الجنسيّة. ففي تموز 2013 ردّ على سؤال أحد الصحافيين عن المثليين بالقول: “مَن أنا لأحكم على الشخص؟”. وفي 2018 دعا الأهل إلى احتضان أبنائهم المثليين بالقول “نكران الابن أو الابنة اللذين لهما ميول مثليّة هو نقص في الأمومة وفي الأبوّة”. وأضاف أنّ الولد المثليّ “له الحقّ أن يكون في عائلة، في عائلته، لا تنبذوه”.

قبل التطرّق إلى بركة المثليين، شدّد الإعلان على مفهوم الزواج في المسيحيّة ليؤكّد أنّ الكنيسة لا تعتبر بأيّ شكل من الأشكال ارتباط المثليين زواجاً. ولا تعترف بارتباط المثليين

في بداية عام 2023 قال البابا إن “المثلية هي خطيئة وليست جريمة. إنّها حالة إنسانيّة”. وأضاف: “عندما أقول إنّها (المثلية الجنسيّة) خطيئة، أرتكز بكلّ بساطة على تعليم الكنيسة بأنّ كلّ علاقة جنسية خارج الزواج هي خطيئة”.

الأسباب التي دفعت إلى صدور الإعلان
على الرغم من هذه المواقف للبابا فوجئ العديد بالإعلان. وطرحوا السؤال حول أسباب صدوره. لكن يمكن تعداد بعض الأسباب خلف صدور هذا الإعلان:
1- انتشار بركة المثليين في العديد من الأبرشيّات والرعايا في العديد من البلدان الأوروبيّة، خاصّة في ألمانيا وبلجيكا.
2- عقد كنيسة ألمانيا سينودساً (2019 – 2023) وتصويت المشاركين فيه على إعطاء البركة للمثليين، إضافة إلى إعطاء المرأة درجة الشمّاسيّة (وهي درجة كنسيّة تسبق الكهنوت). وحدّدت سنة 2026 لبدء العمل بهذه القرارات. وهو ما شكّل ضغطاً على الفاتيكان ووضع الكنيسة أمام خطر الانقسام.
3- انتشار تشريع زواج المثليين في العديد من الدول الغربيّة، خاصّة في أوروبا. وأصبح جزءاً من الزواج المدنيّ فيها. يُحتفل به علناً في القصور البلديّة. ويُدوّن في السجلّات الرسميّة. وهو ما جعل ارتباط المثليين جزءاً من حياة المجتمعات يجاهرون به في الأماكن العامّة. وأصبح الإعلان عن المثلية الجنسيّة مسألة عاديّة في المجتمعات الغربيّة حتى من قبل من يتبوّؤون مراكز عامّة، وبينهم سياسيون (رؤساء بلديات ونواب ووزراء).
4- يعيد البعض صدور الإعلان في هذا التوقيت بالذات وقبل انتهاء سينودس الأساقفة الذي سيعقد جلسته النهائية في تشرين الأول 2024 إلى رغبة البابا في تثبيت توجّهاته الرعوية للكنيسة في نصوص رسميّة، خاصّة أنّه أصبح متقدّماً في السنّ، وقد تعرّض خلال السنة المنصرمة لعدّة وعكات صحيّة أعاقته عن المشاركة في العديد من المناسبات كان آخرها المؤتمر العالميّ للمناخ الذي انعقد في دُبي.

إقرأ أيضاً: 2023: الكنيسة الكاثوليكيّة أمام خطر انقسام ألماني (1/2)

حرّيّة الأساقفة في تطبيق الإعلان
هل تتخطّى الكنيسة الكاثوليكيّة بهذا الإعلان خطر الانقسام؟ هل تقبل كنيسة ألمانيا بالإعلان كما صدر؟ كيف ستتقبّله كنيسة الولايات المتحدة المحافظة؟ وكيف ستتعامل معه الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق حيث ترفض مجتمعاتها المثليّة الجنسيّة وتعيش مع مجتمعات إسلاميّة؟ وفي الإسلام المثليّ “يُرمى به من أعلى شاهق، ويتبع بالحجارة”.
خلق الإعلان بلبلة في الكنيسة وخارجها. هذا ما دفع الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز، “رئيس مجمع الإيمان والعقيدة”، إلى إصدار بيانٍ، نشره موقع الفاتيكان في 4 كانون الثاني 2024، أعاد فيه التشديد على عقيدة الزواج في الكنيسة وأوضح مفهوم بركة المثليين. وأعطى حرّيّة “التمييز” للأساقفة المحلّيين في تطبيق الإعلان وفي كيفية تطبيقه. والسبب أنّه يتعارض مع بعض الثقافات والقوانين في بعض الدول (إفريقيا والشرق الأوسط) ويعرّض الكنيسة والمثليين للخطر.
الأرجح أنّ بيان التوضيح سيزيد البلبلة في موضوع لا يزال مرفوضاً في العديد من المجتمعات. ألم يكن من الأفضل الاكتفاء بالموقف الإنسانيّ للبابا تجاه المثليين؟

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…