إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة؟

مدة القراءة 5 د


تبدو غزة اليوم صورة مصغّرة عمّا وجدت أوروبا نفسها عليه بعد الحرب العالمية الثانية. فبعدما صمتت المدافع وجد الملايين من الأوروبيين أنفسهم يتضوّرون جوعاً. بل ويموتون من الجوع والمرض. كانت أجزاء واسعة من المدن الأوروبية مدمّرة ومحترقة على شاكلة غزة اليوم. وكان ملايين المهاجرين يهيمون على غير هدى بحثاً عن ملاذ آمن، كما يفعل أهل غزة اليوم أيضاً.
خرجت بريطانيا من الحرب مفلسة. ووجد سكان برلين أنفسهم مضطرّين إلى شرب مياه ملوّثة بجثث القتلى، كما يفعل الغزّيون اليوم. وحتى اليابان التي تعيش على التجارة الخارجية، وجدت أنّ 80 في المئة من أسطولها البحري قد احترق أو تدمّر. وللمرّة الأولى في تاريخ اليابان يضطرّ الإمبراطور هيروهيتو إلى أن يعلن تخلّيه عن “القداسة” نزولاً عند إرادة الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آثر الذي حكم اليابان بعد هزيمتها في الحرب. وفي الوقت ذاته انفجرت الحرب الأهلية في الصين، وكذلك في الهند (كلكوتا). ويُخشى اليوم من وقوع انفجارات مماثلة كردّ فعل على الحرب في غزة. وممّا زاد الطين بلّة انطلاق سلسلة التجارب النووية الأميركية في جزيرة بيكيني في المحيط الهادئ.
دفعت الدول الأوروبية الثمن الغالي حتى تعلّمت الدرس وحتى تخلّت عن الحرب كأداة لفرض إرادتها على الآخر. وهو الدرس الذي تحتاج إلى أن تتعلّمه إسرائيل اليوم.
ما كان للدول الأوروبية أن تربح الحرب على النازية الألمانية لولا تحالف الولايات المتحدة الأميركية معها. وما كان لهذه الدول أن تقف على قدميها بعد الحرب العالمية الثانية لولا مشروع مارشال الذي قدّمت بموجبه الولايات المتحدة المساعدات الاقتصادية والماليّة لها لإعادة بناء اقتصاداتها المنهارة. وهذا ما يبدو أنّه يتجدّد أميركياً الآن مع إسرائيل.

تذكّرنا هذه المحكمة بمحكمة نورمبرغ لمحاكمة قادة النازية الهتلرية بعد الحرب العالمية الثانية

غزّة تكشف إسرائيل
لم تبدّد عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) غطرسة التفوّق العسكري الإسرائيلي فقط، لكنّ سلوك إسرائيل المتوحّش في غزة بدّد غطاء التعاطف الدولي “الاستغفاريّ” عن جرائم النازية الهتلريّة. فقد قدّمت إسرائيل نفسها للعالم، من خلال القصف المتعمّد لأهالي غزة ولمؤسّساتها الطبّية والعلمية والإنشائية، تلميذاً ناجحاً لهذه المدرسة الجهنّمية.. وهو ما حمل مجتمعات العالم المتعدّدة على رفع الصوت عالياً ضدّ جريمة الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل والتي جرّتها إلى محكمة العدل الدولية بناء على شكوى من دولة جنوب إفريقيا.
تذكّرنا هذه المحكمة بمحكمة نورمبرغ لمحاكمة قادة النازية الهتلرية بعد الحرب العالمية الثانية.
إنّ النازية من حيث هي ثقافة القتل على الهويّة الدينية أو العرقية، ليست حكراً على ألمانيا الهتلرية. عرفها العالم القديم من خلال جرائم إبادة الهنود الحمر في أميركا. وكذلك من خلال استعباد الأفارقة. وكانت دولة جنوب إفريقيا آخر النماذج المقزّزة للنفس الإنسانية طوال سنوات حكم التمييز العنصري الذي أقامت إسرائيل معه أفضل العلاقات (حتى إنّهما، أي إسرائيل وجنوب إفريقيا العنصرية، عملا معاً في مشروع نوويّ مشترك لصناعة القنبلة الذرّية). وبعدما تحرّرت جنوب إفريقيا من الحكم العنصري أصبحت رائدة في محاربة هذه الأنظمة الاستبدادية اللاإنسانية التي تتمثّل اليوم في إسرائيل في الدرجة الأولى.

النازية الإسرائيلية الجديدة
إنّ العالم كلّه، وليس العالم العربي وحده، ينتظر أن يرى قادة النازية الإسرائيلية الجديدة يواجهون المصير ذاته الذي واجهه أسلافهم وجلّادوهم النازيون السابقون في ألمانيا والعنصريون السابقون في جنوب إفريقيا.
ومن يدري؟ فبعد معاقبة القادة النازيين الهتلريين، وبعدما تعلّمت ألمانيا الدرس القاسي وبعدما دفعت غالياً جداً ثمن الجرائم التي ارتكبتها النازية باسمها، تغيّرت كلّ المعادلات وتبدّلت كلّ العلاقات حتى قامت الوحدة الأوروبية التي تشمل اليوم ألمانيا وكلّ ضحاياها السابقين. بل إنّ الوحدة المتمثّلة في الاتحاد الأوروبي ما كانت لتقوم في الأساس وما كانت لتستمرّ من دون ألمانيا.
كذلك قامت في جنوب إفريقيا دولة حرّة ومتحرّرة على قاعدة قبول الآخر المختلف عنصراً ولوناً وديناً بعدما كانت نموذجاً للدول العنصرية تحت حكم الرجل المستعمر الأبيض. وقد بلغت درجة من الثقة بالنفس في ضوء معاناتها الطويلة السابقة أن أقدمت على اتخاذ المبادرة التي تمنّع عنها الآخرون بإعداد ملفّ حقوقي شامل وموثّق ليكون أساس الادّعاء لمحاكمة إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في غزة.

إقرأ أيضاً: لا تسوية.. إلاّ على أنقاض نتنايناهو وحماس

أمران يعزّزان الاتّهام الموجّه لإسرائيل: الأمر الأول هو أن يكون المدّعي أمام محكمة العدل الدولية دولة جنوب إفريقيا بالذات، التي عانت لعقود طويلة من الحكم العنصري الإلغائي لأهل البلاد الأصليين. والأمر الثاني هو وقائع الجرائم الجماعية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة والموثّقة بالصوت والصورة. أي بتصريحات المسؤولين الإسرائيليين السياسيين منهم والعسكريين. وبالوقائع المصوّرة للأحياء السكنية التي انهارت فوق رؤوس الأبرياء، وللمستشفيات التي استُهدفت بالتدمير المتعمّد مع كلّ ما فيها من مرضى وممرّضين. وكذلك المدارس والمساجد التي لجأ إليها المشرّدون الذين دُمّرت بيوتهم بالقصف العشوائي.
كانت إدانة النازية الألمانية بداية لولادة ألمانيا جديدة تأنف من ماضيها. فهل تدين المحكمة الدولية إسرائيل لتحرّر العالم من النازيين الجدد؟

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…