حين يغفو “ساندي” المقاتل!

مدة القراءة 6 د


بعد أشهر قليلة على انتخاب ميشال عون رئيساً، كان في بيروت لأيام قليلة. فسألني عن إمكانية زيارته للتهنئة.

نقلت التمنّي للرئيس. رحّب وحدّد الموعد فوراً.

عند بداية اللقاء، لاحظت أنّ الرجلين يتصرّفان كمن يخفيان عن بعضهما سرّاً.

سرعان ما باحت به الكلمات بعد العيون.

عبارات تهنئة بالرئاسة ومجاملات سريعة، ثمّ سأله:

“فخامتك، ما بعرف إذا تذكّرتني”…

فلمعت عينا الجنرال ببسمة أعرفها تماماً. فيها مزيجٌ طفوليّ من الرضى الذاتيّ والتباهي البريء. قبل أن يبادر ضيفه بالقول:

“كيفو روجيه أوك؟”.

فجأة حقّق الفريق الفرنسي خرقاً في التفاوض مع الحزب وطهران. فتمّ الاتفاق على إطلاق بعض الرهائن. بينهم المراسل الفرنسي أوك. طُلب من قائد الجيش توفير مروحيّات لنقل المُطلَق سراحهم، في عملية حسّاسة دقيقة ومحاطة بأقصى الكتمان

فتجمّد وجه الضيف مذهولاً حيال تلك الذاكرة الفيليّة لدى عون. لينكشف السرّ المتبادل:

كان قد مضى على تلك الحادثة 30 عاماً. كان روجيه أوك صحافياً فرنسياً خطفه الحزب في بيروت سنة 1987. فيما كان الجنرال عون قائداً للجيش. وكان الكورسيكي العتيق، شارل باسكوا، وزير داخلية جاك شيراك في باريس، مكلّفاً بملفّ الرهائن الفرنسيين في لبنان، يعاونه صديقه الثعلب جان شارل ماركياني.

فجأة حقّق الفريق الفرنسي خرقاً في التفاوض مع الحزب وطهران. فتمّ الاتفاق على إطلاق بعض الرهائن. بينهم المراسل الفرنسي أوك. طُلب من قائد الجيش توفير مروحيّات لنقل المُطلَق سراحهم، في عملية حسّاسة دقيقة ومحاطة بأقصى الكتمان.

أُنجزت المهمّة. قيل يومها أنّ فضلاً أساسيّاً فيها كان لوسيط بين الفرنسيين واليرزة والضاحية. رجل شبح. شابّ لبناني في مطلع الثلاثينيات. عُرف لاحقاً أنّ اسمه إسكندر صفا.

هو “ساندي”. كما يعرفه الأهل والأصدقاء ورفاق زمن النضال.

قيل أنّ مهمّته تلك فتحت له أبواب النجاح، كما نوافذ الهجمات والفخاخ وأحقاد الحاسدين.

لكنّ ساندي اعتاد ذلك. مقاتلٌ هو في الأصل والأساس.

وُلد مقاتلاً وعاش كذلك.

في مواجهة القضاءين الفرنسي

بعد أشهر قليلة على نجاحه في مهمّته الفرنسية اللبنانية تلك، كانت هناك انتخاباتٌ رئاسية في فرنسا. وكان شيراك مرشّحاً بمواجهة الرئيس الاشتراكي المحنّك ميتران. ففُتحت بوجه الأوّل كلّ الأخبار الفضائحيّة. المعقولُ منها والملفّق المفبرك. بينها عملية بيروت. سرّب فريق ميتران أنّ أموالاً طائلة دُفعت فدية للحزب ولوسطاء لبنانيين، لإطلاق سراح أوك وزملائه، لتظهير إنجازٍ شيراكيّ عشيّة الانتخابات.

وصلت تشظّيات الحرب بين المرشّحين الرئاسيَّين إلى ساندي. وسرعان ما فُتحت ضدّه ملاحقات قضائية.

لم يرتعش جسد المقاتل اللبناني القديم الصلب. ولم ترمش عيناه. واجه القضاء الفرنسي سنوات. حتى ظهرت الحقيقة وتأكّدت براءته.

بعد 30 سنة تكرّر المشهد: حرتقة من أكثر من مصدر، قيل أنّ بعضها لبناني محلّي صغير، أدّت إلى رفع قضية ضدّ ساندي من قبل وزارة العدل الأميركية. بحجّة الاشتباه بفساد في صفقة بواخر لدولة موزامبيق.

وكما في الأفلام الهوليووديّة، يُعرض على المشتبه به “تسوية خارج المحكمة”، مقابل مبالغ ماليّة تحدّدها واشنطن.

رفض ساندي العرض. قال للأميركيين: نلتقي في المحكمة.

بعد 30 سنة تكرّر المشهد: حرتقة من أكثر من مصدر، قيل أنّ بعضها لبناني محلّي صغير، أدّت إلى رفع قضية ضدّ ساندي من قبل وزارة العدل الأميركية. بحجّة الاشتباه بفساد في صفقة بواخر لدولة موزامبيق

والتقاهم هناك. وقاتل وفاز في دعوى، قيل أنّها غير مسبوقة، ضدّ وزارة العدل الأميركية على أرضها. ليصدر حكمٌ في كانون الأول 2019 يؤكّد حقّ ساندي.

مقاتل هو. يقاتل طالما يتنفّس. منذ ذكره الأباتي نعمان في مذكّراته مقاتلاً منتصف السبعينيات.

قاتل ليمتلك سنة 1992 أكبر مصنع لبناء البواخر والسفن في فرنسا، CMN  (construction mécanique de Normandie). وقاتل ليجعل منه إمبراطورية تمتدّ من النورماندي وهامبورغ إلى أثينا ودبي.

وقاتل ليصبح مالكاً لأكبر مقالع الرخام في العالم. وقاتل ليصير “سيّداً” كما نبلاء قرونٍ سالفة، لإحدى كبريات الملكيّات الخاصة في جنوب فرنسا، أوdomaine Barbossi في “ماندليو لا نابول”، جارة مدينة كان الهادئة جنوب فرنسا. حيث مملكته وجنّته. وحيث المتحف المفتوح في الهواء الطلق، على مساحة ملايين الأمتار المربّعة، لشغف ساندي بالفنّ والجمال.

وقاتل ليصبح مالك إحدى أهمّ المجموعات الإعلامية الفرنسية. وفيها تلفزيون ووكالة أنباء ودوريّات متخصّصة وأسبوعيّات…  

قاتل ساندي على جبهات خارجية كثيرة. وانتصر فيها كلّها بلا استثناء.

الهزيمة الأخيرة: بسمة لا تُنسى

قبل أن تهزمه تلك الجبهة الداخلية الخبيثة. تاركاً بسمة لا تُنسى، وإرثاً هائلاً من إرادة الحياة وعشقها أكثر وأوفر.

ذات عشاء صغير في مملكته الساحرة، كنت أتبادل الحديث مع السيناتور الأميركي السابق والموفد الرئاسي الشهير، جورج ميتشل.

سألني من أين أنا من لبنان.

ابتسمت لمعرفتي بأنّ جوابي سيفاجئه، قبل أن أبوح له بفرح: من جزّين.

فإذ بميتشل يصرخ بحبورِ من وجد كنزاً، ليُبلغ زوجته الجالسة على بعد كرسيَين: “إنّه من جزّين. من البلدة الملاصقة لبلدة والدتي بكاسين”.

كان يجلس قربنا فرنسيٌّ وقور. لفتته صيحة السياسي الأميركي وصراخه بالإنكليزية. سألني عن السبب. شرحت له أنّه اكتشف أنّني من بلدة ملاصقة لمسقط رأس والدته اللبنانية الأصل.

فقلب شفته على الطريقة الفرنسية المتعالية تودّداً. قبل أن يقول لي: “وما الغريب في ذلك. فكلّنا هنا لبنانيون. أنا لبناني أكثر منه”.

وقبل أن أستفسر، عاجلني بالشرح: “والدي كان ضابطاً في الجيش الفرنسي في لبنان الانتداب. تعرّف هناك إلى أمّي وهي من أصول حلبيّة. وتزوّجا. ووُلدت أنا وشقيقي الجالس قبالتنا، في أوتيل ديو في الأشرفية. فليسمح لنا السيّد ميتشل. نحن لبنانيون أكثر منه!”.

إقرأ أيضاً: رحيل وضّاح فارس… مصوّر بيروت الجميلة

كان الرجل الذي يحدّثني هو النائب عن دائرة المنطقة في البرلمان الفرنسي. وكان شقيقه، “اللبناني الآخر”، رئيساً سابقاً لنادي باري سان جرمان، وإحدى أبرز شخصيّات الإعلام الفرنسي…

وحده ساندي كان قادراً على معجزة كهذه. هناك على الضفّة المقابلة من المتوسّط، حيث بنى لبنانه أو لبنان آخر. حين أدرك ربّما أنّ لبناننا يحتضر مثله، بلا اعتراف ولا استسلام.

حتى عندما احترقت كاتدرائية نوتر دام دو باري، كان أوّل المتبرّعين لترميمها. وربّما أكبرهم كفرد خاصّ، عن نيّة لبنان.

تماماً كما في ماندليو، حيث أقام على سفحها كنيسة كبيرة رائعة، بناها تقدمةً منه للمدينة. مع تمنٍّ وحيد بأن تحمل اسم سيّدة لبنان.

هناك، غداً الخميس، سيغفو مقاتل من لبنان. أروعُ صفاته لكلّ من عرفه، أنّه وصل حيث وصل، وأنجز وحقّق وراكم، وظلَّ… “ساندي”.

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…