سطر المسافة.. صفر في غزّة

مدة القراءة 7 د


لم يكن الطاهر وطّار يعرف أنّ “عودة الشهداء” في غزة لا تحتمل الوقت والسير تحت الركام، ولم يدرك رولان بارت أنّ “صفر الكتابة”، بعد تحقيقه الرمز الموسيقي، سيحقّق صفر المسافة في فلسطين وغزة تعيش “طوفان نوح”، معركة “طوفان الأقصى”، والتي صارت ساحة حرب بعد “وحدة الساحات” في الضفة الغربية والقدس وفلسطين 1948 والسجون والشتات. إذ لا وقت ولا مكان غير صفر يد الفدائي في وجه عدوّ طار في سماء غزة واقترب من الأرض في الدخول البرّي فقفز “قلب الحمار” من أسطورة بلعام معلناً الخوف بين جنوده.
كي تكون المسألة أكثر تجذّراً عضويّاً بين معادلة الحرب والنصر والكرامة الوطنية، فإنّ المعركة التي طوت صفحة المفاوضات المخجلة مع عدوّ لا يفهم لغة الأخلاق ولا معنى الفدائي السياسي وقد رفع الأخير رايته نحو ربوع فلسطين، حقّقت الكتابة الفعلية في 12 آب 2021، وهي “درجة صفر المسافة”. كان الجدار يحمل قلبه وكلمة “القدس” على الجدار، في انتظار “صورة العائد” من غزة إلى فتحة في جدار، ضيّقة المساحة واسعة الأفق. اقتربت يده من الجدار وصارت العودة كلمة في رأس العدوّ. حينها، كانت انطلاقة المسافة صفر في غزة تلوح في “النشيد الجسدي”، إذ حقّق الفدائي صورة الشجاعة المطلقة في سجايا المسافة المستحيلة. كانت صورة رمزية اتّخذت الواقعية فيها شكل الفعل، وأصبحت سؤالاً في سجلّ الأيام الفلسطينية: كيف حقّق الفلسطيني المطارِد هدفه من المسافة صفر وراء الجدار، واستمرّت مسيرات العودة حتى جاء الطوفان الأكبر والأخطر، “طوفان الأقصى”؟

مسافة الطوفان
في غزة، خلف “نوافذ البحر” وأمام مستعمرات العدوّ، صار الفعل المستحيل في 7 تشرين الأول 2023 ممكناً وقريباً من فلسطين المحتلّة. لقد جاءت لحظة استكمال مشروع التحرّر الثوري حين أخذت المقاومة الفلسطينية الباسلة تدكّ “غلاف” العدوّ. لقد اقتلعت المقاومة الباسلة وجندها القادمون من الجوّ والبحر والبرّ الأسلاك التي خنقت غزة، وحوّلت الدولة المستوطنة إلى فرجة في مشهد أيقظ العالم ونظامه المنكفىء على سلام الاستسلام الذي رفع راية التواطؤ لعدوّ يرفض الوجود الفلسطيني أصلاً. في غزة تتسارع اللغة بشأن الحدث والصورة لتصف ببلاغتها الثورية كلّها، الجمال النضالي لموكب الحرّية المزيّن بأسماء الشهداء ومعانى الإرادة الوطنية فوق أرضنا السليبة. وفي غزة، أيضاً، سقطت قيم الحداثة وازدواجيات الأنظمة والقانون الدولي الساقط قبل السقوط الأخير.

ثمّة عمق في المسافة صفر التي تختصر المسافة التدريبية التي خاضها الفدائي المقاوم بينه وبين فهمه للكون ولفيزياء العدوّ

جاءت هذه التحوّلات الكبرى كي تشدّ الانتباه وتتابع السؤال: ما الذي حدث ويحدث وسيحدث بين العدوّ النائم في أعياد الأسطورة، وبين المفكّر الثوري اليقظ في فلسطين الواقع؟ يتقدّم المفكّر نحو المسافات البعيدة لجسد المقاومة الفلسطينية السرّي، ويتنوّع الأسلوب في 7 تشرين الأول 2023، ليعود الفلسطيني إلى جغرافيّات النكبة مكملاً دور جثامين الشهداء الذين دخلوا ثلّاجات العدوّ ومقابر أرقامه وعادوا إلى جغرافيّات فلسطين المحتلّة برسم التحرير. هكذا تحيا الجغرافيا المطموسة بين يدَي مَن يحرّر الأرض من مضمون المعارك المعجزة. يعود الفلسطيني المقاوم ومَن معه ممّن لم تنَل منهم “لعنة الانتظار الطويل”، وهم يتحسّسون عيونهم وقلوبهم على الملأ لكسر بوصلة الحصار واستبدالها ببوصلة الصفر الذي خلخل سيطرة العدوّ. يستمرّ الفاشي في عدوانه واصطدامه بصفر الطلقة والبندقيّة والقذيفة العائدة مع جسد الفدائي نحو فلسطين “المحروسة” بنيران الاحتلال منذ عقود رعتها مهزلة القرارات الدولية الباحثة عن مسخرة الحلّ السياسي الذي لا يحلّ شيئاً في فلسطين، ولا يفعل شيئاً غير تمكين العدوّ وإعطائه فرصة من الأعوام الضائعة لتكريس سلطة الاستيطان وهندسة أيديولوجية القهر اليومي على غزة لقتلها على مهل. 

صفر الفدائيّ
ثمّة عمق في المسافة صفر التي تختصر المسافة التدريبية التي خاضها الفدائي المقاوم بينه وبين فهمه للكون ولفيزياء العدوّ. ومن تلك المساحة، وضعت المقاومة الفلسطينية في غزة الجسد في مركز الصفر وعلى رأسه، وتكوّن الخطاب وصار إحدى درجات قوّة الصفر. يظهر “المثلّث الأحمر” الذي ربطته بعض التصميمات بالمثلّث الأحمر في العَلَم الفلسطيني، في المقاطع المصوّرة لبسالة المقاومة وانتصار الإصبع على الدبّابة. وتشاهد عيون العالم كيف تلتحم الأيادي المجرّدة إلّا من الإرادة مع أسلحة تتطوّر في اتجاهات اللاسامية التي تخوض حروباً مدعومة بأساطيل الإمبريالية والنظم الغربية وأسلحتها الفتّاكة وتخاذل الرجعية العربية وصمت الرسمية الفلسطينية على غزة التي يأكلها غبار الحرب، وينهض من أرضها صفر “الطوفان المجيد” في قصيدة فدائية إنسانية. لقد انتظرت هذه القصيدة الحربية اللحظة والمساحة الحاسمة لتلتحم مع عدوّ حاول السيطرة على الكون بروايته المزيّفة، وصار احتلالاً ذا رخصة ضارّة وغير محتملة.

تلاوين من غزّة
رسم 7 تشرين الأول 2023 ثورة جديدة في غزة وعموم فلسطين وجبهات المقاومة في بلاد العرب التي لا تزال على عهد التحرير. كان سبت البداية في سماء فلسطين وبرِّها وبحرها التي صارت ممرّ الفدائي ونفقه وممرّه إلى فلسطين التاريخية، محقّقاً نبوءة سطر حسين البرغوثي الأخير: “فلسطين الطيّبة الحرَّة وطني الذي ليس لي سواه، وباسم هذا الأفق قلت وسأقول للظلم ظلماً في عينه، وباسمه اخترت الانحياز للضحايا بدون أن أحوّل “الضحية” إلى نموذج أسمى. وبمقدار ما نحن ضحايا أنحازُ لنا، وبمقدار ما نحوّل كوننا ضحايا وأبطالاً إلى مثال أسمى أنحازُ ضدّنا، فمسكين الوطن الذي يفتقر لأبطال، ومسكين الوطن الذي يحتاج لأبطال”.
فهل تنهش المستعمرات طريق الفدائي من غزة وإليها؟ سؤال يتردّد بالصوت والصورة حول المدن الفلسطينية المحتلّة. يردّده المقاوم في لحظة الاشتباك، ويطرحه السياسي بشأن الحلول السياسية مع العدوّ في لحظة الاستسلام. وهذا أمر لم تعرفه من قبل قواميس المقاومة والحرّية. من هنا، نجد في غزة المقاوِمة طريق العائدين قصيرة المسافة، طويلة التأمّل والفرح على الرغم من الألم، وشعاره بين يديه وفي قلبه وثنايا روحه وجسده الجريح: إلى وطني سأعود حاملاً أحلام الشهداء والأسرى واللاجئين.

إقرأ أيضاً: مُفردات النصر والهزيمة في غزّة

السطر قبل الأخير
طاردت الدولة الاستعمارية سطور الفلسطينيين حتى يستعصي على المرء الفهم، لكنّ “الصيغة كلّها حمقاء”، مثلما قال حسين البرغوثي مرّة، وجسد الفلسطيني لا يختفي من صفحة الحقيقة. مَن يكتب السطر الأخير في مسيرة الحرّية؟ إنّ دخان الحرب في غزة لم يكن أزرق كألوان الله، وإنّما صارت غزة مثلّث النقطة صفر الحمراء بين ألوان العلم: أحمر، أسود، أبيض، أخضر. والفدائي يحمل أطفاله ويسير فوق ركام الحرب، وبقيّة الروح في غزة على خطى أبطال “نفق الحرّية” من سجن “جلبوع” في بيسان إلى أوّل الحرّية وآخر الظلم. على سبت غزة يستيقظ العالم من عسل نومه وظلمه على المعجزة الفلسطينية التي أعلنها محمد الضيف ويحيى السنوار تحقيقاً لحلم محمود العارضة وزكريا الزبيدي، ونهاية لآلام وليد دقة، وللظلم الذي لحق بإخوانهم ورفاقهم وحرائرهم الأسيرات في سجون العدوّ. ينشغل العالم اليوم بمعجزة غزة، صوتاً وصورة: كيف دخل الفلسطيني بمقاومته أرض الحلم المستحيل؟ كيف عبر إلى مستعمرات العدوّ وقواعده العسكرية الجاثمة على صدر الوطن؟ إنّه سبت المستوطنين النائمين في حقل الأعياد والأسطورة، وسبت العالم الذي يشاهد تحقّق عودة الفدائي بالمسافة صفر مع العدوّ إلى المسافة صفر مع الأرض المحتلّة. يبكّر الفدائي وهو يردّد أغنية أبي عرب “يُمَّا سرينا الصبح”، ونشيد الحسين الشهيد “ومَن تخلَّف فلن يدرك الفتح”، إلى فلسطين الجميلة التي لن تكون إلّا عربية.

 

* نقلاً عن مجلّة الدراسات الفلسطينية

* باحث إعلامي في منظمة التحرير الفلسطينية، ومهتمّ بالشأن الثقافي الفلسطيني ويحمل درجة الدكتوراه في الإعلام السياسي.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…