باتت واشنطن على قناعة بأنّ الهدوء على الحدود الجنوبيّة للبنان لن يكون من دون وقفٍ لإطلاق النّار في غزّة، على ما يقول مصدر مسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة لـ”أساس”. هذه القناعة توصّلت إليها عاصمة القرار بعد جولة المبعوث الرّئاسيّ آموس هوكستين بين بيروت وتل أبيب.
هكذا صارت واشنطن مُقتنعة أيضاً بأنّ إطفاء النّيران المُشتعلة في البحرِ الأحمر والعراق وشمال سوريا عِماده إطفاء النّار في جنوب فلسطين المُحتلّة.
لم تنفَع كلّ المُغريات الكبرى التي حملَها هوكستين في جعبته للحزبِ، والتي لا تبدأ بالرّئاسة ولا تنتهي بالتّنقيب عن النّفط والغاز في أعماق المنطقة الاقتصاديّة، في مُقابل وقفِ إطلاق النّار وتثبيت النّقاط البرّيّة الخلافيّة. لكنّ الجواب الوحيد الذي سمِعَه هو: “مُنفتحون على كلّ ذلك، لكن بعد وقفِ إطلاق النّار في غزّة”.
لم تستطِع واشنطن تفكيكَ “وحدة السّاحات” الإيرانيّة التي إن لم تدخل الحرب بشكلٍ واسعٍ، بل ضمنَ إيقاعٍ مضبوطٍ على دوزنة “الحرس الثّوريّ”، إلّا أنّ ما يحصل في المنطقة برمّتها بات يُهدّد أميركا بشكلٍ مباشر.
الحوثيّ والعراقيّون: لإطباق الحصار
ما يحصل قُبالة السّواحل اليمنيّة لا يقلّ أهميّة، في نظر الأميركيين، بل ربما أكثر أهمية ممّا يحصل في جنوب لبنان. إذ يُهدّد الحوثيّون العقيدة البحريّة الأميركيّة التي أرساها المُنظّر الاستراتيجي ألفرد ماهان في القرن التّاسع عشر: “الهدف الأساسي لانتشار الأساطيل الأميركيّة هي حماية التجارة العالمية، والسّيطرة عليها وحكم العالم عبرها”.
بحسب ما يقول مصدران أمنيّان عراقيّان لـ”أساس” فإنّ الفصائل العراقيّة تنوي استهداف مرفأيْ أشدود وحيفا لإخراجهما من الخدمة نهائيّاً وإكمال “الحصار البحريّ” على إسرائيل
لن يكون الحوثي آخر من يلعب بنظريّة “أمن البحار” الأميركيّة. إذ إنّ الميليشيات العراقيّة ستنضمّ هي الأخرى إلى ما تُسمّيه “الحصار البحريّ ضدّ إسرائيل”. استطاع الحوثيّون عرقلة وصول السّفن إلى ميناء إيلات عبر البحر الأحمر. وكذلك شهِدَ مرفأ حيفا انخفاضاً كبيراً في حركة السّفن بعد المواجهات مع الحزب. وبقِيَ لإسرائيل ميناء أشدود جنوب الأراضي المُحتلّة.
بحسب ما يقول مصدران أمنيّان عراقيّان لـ”أساس” فإنّ الفصائل العراقيّة تنوي استهداف مرفأيْ أشدود وحيفا لإخراجهما من الخدمة نهائيّاً وإكمال “الحصار البحريّ” على إسرائيل. تأتي الخطوة العراقيّة بعدَ استهداف القوّات الأميركيّة قواعد لـ”كتائب حزب الله العراقيّ” في جرف الصّخر وبابل.
أهداف إيران
على الرّغم من أنّ استهداف المرفأيْن أسهلُ عمليّاً على الحزبِ من الفصائل العراقيّة، إلّا أنّ اختيار العِراق لهذه المُهمّة الإيرانيّة عِماده الآتي:
أوّلاً: تُبقي إيران الحزب في لبنان بعيداً عن أيّ ضربةٍ أميركيّة مُحتملة. إذ إنّ الفصائل العراقيّة كثيراً ما تتعرّض لضربات من القوّات الأميركيّة الموجودة في العراق وسوريا. وبالتّالي تستمرّ بمشاغبة أميركا من دون تعريض الحزب، أقلّه من جهتها، لخطر توسعة الحرب.
ثانياً: عسكريّاً يسهل اكتشاف المقذوفات العراقيّة عبر أجهزة الإنذار المُبكر الإسرائيليّة والأميركيّة في سوريا والأردن، من صواريخ باليستيّة ومُسيّرات، بسبب المسافة البعيدة، وهو ما يُسهّل اعتراضها من دون التّسبّب بأضرار كُبرى. وذلك على عكس إطلاق المقذوفات من لبنان، حيث قد يلعب قصر المسافة بين الحدود وحيفا أو أشدود عاملاً مُهمّاً في إصابتها للأهداف.
ثالثاً والأهمّ: تُريد إيران الضّغط على واشنطن، خصوصاً بعدَ إبلاغ السّفيرة الأميركيّة لدى بغداد ألينا رومانوسكي وزير الخارجيّة العراقيّ فؤاد حسين أنّ بلادها مُنفتحة لمناقشة جدولٍ زمنيّ لانسحاب قوّات التّحالف الدّوليّ من العراق.
كما يتزامن كلّ ذلك مع نصيحة قدّمها مُستشار الأمن الوطنيّ العراقيّ قاسم الأعرجي لرئيس الوزراء محمّد شيّاع السّوداني بتقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدّوليّ ضدّ الولايات المُتحدة بسبب هجماتها ضدّ مقرّات الحشد الشّعبيّ.
عرِفت إيران كيف تُلاعِب واشنطن بخطّيْها الأحمريْن: أمن إسرائيل وأمن التّجارة العالميّة في آنٍ واحد.
يشيرُ مصدر مسؤول في مكتب الأمن القوميّ الأميركيّ لـ”أساس” إلى أنّ الضّربة الإسرائيليّة التي استهدَفت ضبّاط الحرس الثّوريّ في العاصمة السّوريّة دمشق كانت بموافقة أميركيّة
العواقب الأميركيّة
لكنّ مُشاغبة إيران البحريّة كانَت دونها عواقب أميركيّة. إذ يشيرُ مصدر مسؤول في مكتب الأمن القوميّ الأميركيّ لـ”أساس” إلى أنّ الضّربة الإسرائيليّة التي استهدَفت ضبّاط الحرس الثّوريّ في العاصمة السّوريّة دمشق كانت بموافقة أميركيّة، على عكس الضّربة التي قتلَت العميد رضى موسويّ مطلع الشّهر الجاريّ.
يقول المصدر إنّ إيران استهدَفت بشكلٍ مُباشرٍ سفينتيْن إسرائيليّتيْن، واحدة قُبالة سواحل الهندِ وأخرى قبالة سواحل المالديف بطائرات مُسيّرة انطلقَت من أراضيها. وهذا ما دفَع واشنطن للموافقة على اغتيال الخليّة الاستخباريّة لفيلق القُدس في دمشق، كرسالة أميركيّة ترسمُ لإيران خطّاً أحمرَ في أمن البِحار.
يُذكّر المصدر بحادثيْن تخطّت فيهما إيران الخطوط الحمر:
الأوّل: يومَ لغّمت إيران مياه الخليج العربيّ في 1988، وهو ما دفعَ واشنطن لتوجيه ضربات قاتلة للبحريّة الإيرانيّة بعمليّة “فرس النّبيّ”.
الثّاني: يومَ هاجمَت الفصائل العراقيّة مبنى السّفارة الأميركيّة في بغداد، وقتلت أميركيين في إربيل، أواخر عام 2019، فكانَ الرّد باغتيال قائد فيلق القدسِ قاسم سُليماني مطلع 2020.
الخطّ الأحمر الأميركيّ اليوم يتمثّل بأن لا تفقد واشنطن السّيطرة البحريّة على مضيق باب المندِب أو مياه البحر المُتوسّط. إذ إنّ ذلك يفتحُ شهيّة خصوم واشنطن الكبار مثل الصّين وروسيا للمُشاغبة في البحار والمُحيطات، وخصوصاً في مضيق تايوان وبحر الصّين الجنوبيّ.
لهذا ترفَع واشنطن شيئاً فشيئاً من استهدافها للميليشيات الحوثيّة في اليمن. إذ إنّها لا تُريد توسعة نطاق الحرب لتُصبِحَ حرباً شاملة في الشّرق الأوسط، وتدخل مواجهة مباشرة مع إيران، لا تُريدها واشنطن ولا طهران. لكنّها في الوقت عينه تضربُ في صنعاء والحُديدة وصعدة ليُسمَع صدى الصّواريخ في طهران.
كما يدخل في الحسابات الأميركيّة أنّ توسيع الضّربات ضدّ الحوثيين قد يدفعهم إلى قطع الملاحة بشكلٍ كُلّي في المنطقة. كذلك إن لم تردّ أميركا على المُشاغبات الحوثيّة، فهذا يعني تسليمَ الحرس الثّوريّ مفاتيح “باب المندِب”، ليضمّه إلى “مضيق هرمز”.
إقرأ أيضاً: هل أبلغت واشنطن الحوثيّين بضربهم مسبقاً؟
من دون أدنى شكّ، استخلصت إيران العبَر ممّا حصلَ لأسطولها في 1988. وحوّلت التهديد البحريّ من أسطولٍ نظاميّ يسهل تدميره بدقائق، إلى ميليشيات مسلّحة بصواريخ باليستيّة “أرض – بحر” ومُسيّرات بعيدة المدى. وهذا يُصعّب من المهمّة الأميركيّة، بسبب طبيعة اليمن الجغرافيّة، وطول ساحله، واستعمال تقنيّات التخفّي، على عكس القطع البحريّة.
على الرغم من كلّ الخطوط الحمر الأميركيّة، تُصرّ إيران على مُشاغبة واشنطن بحريّاً وتهديد عقيدتها البحريّة وأمن إسرائيل سعياً لدفعها لإرساء وقفٍ لإطلاق النّار في غزّة. وهذا من شأنه، إن حصلَ باكراً، أن يُرسِّخَ ورقةَ “حماس” و”الجهاد”، ومن خلفهما إيران، في القطاع. وهذا ما لا تريده واشنطن التي تسعى نحوَ تغيير الواقع السّياسيّ في غزّة بشكلٍ جذريّ قبل أيّ وقفٍ لإطلاق النّار. وكذلكَ تكون قد حمَت الحزب في لبنان وقدّمت له ورقةً يُساومُ واشنطن على ثمنها، عنوانها أنّه لم يُوسِّع نِطاق الحرب، على الرّغم من الخسائر البشريّة والاغتيالات الإسرائيليّة التي طالت قادة عسكريين من الصّفّ الأوّل.
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@