تقول دراسات تاريخية إنّ اليهود عندما اجتازوا البحر الأحمر هرباً من فرعون وجنوده، فإنّ المنطقة التي اجتازوا البحر عبرها كانت باب المندب. في ذلك الوقت كانت القارّتان الآسيوية والإفريقية أقرب ممّا هما عليه الآن. فالكتلتان تتحرّكان باتجاه معاكس فتتوسّع المسافة بينهما مع الوقت. ونظراً لضيق المساحة بين الشاطئين الإفريقي والآسيوي، ونظراً لوجود نتوءات صخرية مرتفعة (لا تزال حتى اليوم)، فقد تيسّر اجتياز البحر بإذن الله. حتى إذا وصل اليهود بقيادة نبي الله موسى إلى شاطئ الأمان، يلاحقهم فرعون وجنوده، حدث مدّ بحريّ أغرقهم جميعاً. ونجّى الله موسى والمؤمنين به.
عين العالم هنا
في هذا الموقع، باب المندب، تتّجه أنظار العالم اليوم حيث تمرّ أكثر من عشرة في المئة من حركة التجارة البحريّة العالمية، وحيث تتجمّع قوى بحريّة أميركية – أوروبية تحت شعار حماية حرّية الملاحة.
لا تزال هذه المنطقة تتعرّض لحركتَي المدّ والجزر حتى اليوم. ولكنّ تأثيراتها لم تعُد ذات شأن يُذكر. فالفارّون من الفقر الإفريقي لا يزالون يسلكون هذا الممرّ إلى الشاطئ الآسيوي للانتقال عبر اليمن إلى السعودية، وإلى دول الخليج بحثاً عن مستقبل أفضل. وهو الطريق الذي سلكته “شجرة البنّ” من إثيوبيا إلى اليمن، لتصبح القهوة المشروب الصباحيّ المفضّل في العالم.
غير أنّ هذه المنطقة تتجمّع فيها اليوم قطع من الأساطيل البحريّة الأميركية والأوروبية للتصدّي للصواريخ الحوثية في اليمن التي تستهدف السفن الإسرائيلية أو السفن التي تنقل مساعدات إلى إسرائيل.
تستمرّ لعبة “عضّ الأصابع” بين أطراف الصراع في الشرق الأوسط وعليه.. بانتظار معجزة ما.. مثل معجزة العبور اليهودي للبحر الأحمر
ضرر جماعيّ في باب المندب
يمتدّ البحر الأحمر بين باب المندب في الجنوب وقناة السويس في الشمال. وإذا كان مرور سفن التجارة العالمية مجّاناً وحرّاً عبر باب المندب، فإنّ المرور عبر قناة السويس يخضع لرسوم ماليّة تفرضها صاحبة القناة مصر. فالطريق يوفّر الدوران حول إفريقيا ويختصر المسافة إلى الأسواق الأوروبية. وقد بلغت عائدات مصر من القناة في العام الماضي وحده 9.5 مليارات دولار. ويشكّل ذلك (بعد تراجع حجم السياحة الدولية نتيجة انتشار وباء كوفيد أوّلاً ، ثمّ الاضطرابات السياسية – الأمنيّة المتعدّدة) الدخل الرئيس من العملة الصعبة التي تحتاج إليها مصر.
تتضرّر مصر من تعطيل التجارة البحريّة الدولية عبر البحر الأحمر (بين باب المندب وقناة السويس). ذلك أنّ تراجع عدد السفن التجارية يعني تراجع دخل مصر من القناة. وقد حدث التراجع بالفعل في وقت تحتاج فيه إلى المزيد من العملة الصعبة لدعم الجنيه الذي يواجه صعوبات معقّدة. فقد تراجع عدد السفن التجارية التي استخدمت القناة إلى 55 سفينة فقط بعدما وصل العدد قبل الأزمة إلى 2,128 سفينة.
حتى اليمن نفسه تضرّر. إذ تراجع عدد السفن التي تحمل إليه من الخارج العديد من الموادّ الغذائية، وهو ما أدّى إلى ارتفاع أسعار هذه الموادّ نتيجة لذلك.
غير أنّ المتضرّر الأوّل هو إسرائيل. ذلك أنّ سفن الشحن الدولية التي تنقل البضائع والمنتجات من إسرائيل وإليها، تستخدم مرفأ إيلات على البحر الأحمر (وبالمناسبة احتلّت إسرائيل هذا الموقع الجغرافي المهمّ لقطع التواصل البرّي بين مصر والأردن ولإقامة رأس جسر لها على البحر الأحمر). وقد تراجع دخل مرفأ إيلات بنسبة 80 في المئة، وارتفعت نفقات الشحن وتضخّم حجم البطالة لدى اليد العاملة الإسرائيلية.
لا تزال هذه المنطقة تتعرّض لحركتَي المدّ والجزر حتى اليوم. ولكنّ تأثيراتها لم تعُد ذات شأن يُذكر
في الأساس تعتمد إسرائيل في تجارتها الخارجية على الغرب الأوروبي (صادرات وواردات)، ولذلك تعتمد بصورة أساسية على مرفأي حيفا وأشدود على المتوسّط. أمّا تجارتها مع الشرق الأقصى فتعتمد فيها على مرفأ أشدود، الأمر الذي يتطلّب حتماً المرور عبر باب المندب. وقد توسّعت التجارة الإسرائيلية مع بعض الدول الآسيوية وخاصة الهند، إلا أنّ هذا التوسّع انكمش الآن بحكم الواقع الأمنيّ المستجدّ في باب المندب.
ربّما الصين هي الدولة الكبرى الوحيدة المعنيّة أكثر من غيرها بقضية سلامة الملاحة التجارية عبر البحر الأحمر. ذلك أنّ الصين تستورد من إيران وحدها مليوناً ونصف مليون برميل من النفط يومياً. كانت الولايات المتحدة تعتقد أنّ الصين حرصاً على مصالحها من خلال ضمان استمرار تدفّق النفط الإيراني إليها، سوف تتدخّل مع طهران لحثّها على الضغط على جماعة الحوثي في اليمن. ولكنّ الصين ضمنت تعويض حاجاتها من النفط الروسي. ثمّ إنّها تملك مخزوناً استراتيجياً يمكّنها من الصبر والصمود حتى لا تقدّم خدمة مجّانية للولايات المتحدة. ولذلك لم تضغط الصين على إيران ولم تحاول حثّ إيران على الضغط على جماعة الحوثي، تاركةً للولايات المتحدة “أن تقلّع أشواكها بأناملها”، وأن تدفع ثمن سياستها المتماهية مع إسرائيل. ولذلك تعمّدت تجاهل الوضع في البحر الأحمر على أمل أن تغرق الولايات المتحدة في مياه أزمته الحاليّة وتدفع الثمن هي وحلفاؤها.
إقرأ أيضاً: إيران: أنا هرمز.. أنا باب المندب
هكذا تستمرّ لعبة “عضّ الأصابع” بين أطراف الصراع في الشرق الأوسط وعليه.. بانتظار معجزة ما.. مثل معجزة العبور اليهودي للبحر الأحمر!!