اتّسمت معالم السياسة الخارجية التركية في عام 2022 بسنة مراجعة المواقف والسياسات في العلاقة مع دول المحيط. واستكملت القيادات التركيّة هذا المسار في العام الحالي. لن يكون هناك مبالغة عند توصيف عام 2023 التركي بعام التطبيع في العلاقات التركية العربية، وتحديداً مع دول الخليج، وإصلاح ما تهدّم في العقد الأخير بين أنقرة وأكثر من عاصمة عربية، بعد جولة إردوغان الخليجية الأخيرة التي شملت الرياض والدوحة وأبو ظبي.
في الداخل التركي نجح إردوغان وحزبه في الوصول إلى ما يريدان بعد انتصار ساحق على المعارضة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية منتصف هذا العام. لكنّ المعركة مع ارتدادات الأزمات الاقتصادية والمعيشية ما زالت قائمة على الرغم من قرارات التغيير الجذري في الكوادر وبرامج الإصلاح.
بين التبريد والتسخين
شعار عام 2023 التركيّ قد يكون رفعه إردوغان بنفسه وهو يردّد أنّ “قوّة تركيا في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية ووصولها إلى موقع يسمح لها بدعم أصدقائها وإخوانها من الدول بما يتجاوز اكتفاءها الذاتي ليس خياراً بل ضرورة ملزمة”.
لكنّ وضعية قدم في البارد وأخرى في الساخن ما زالت تواجه قيادات حزب العدالة والتنمية كما تقول الأصوات والأقلام في صفوف المعارضة التركية، على الرغم من أنّ الأخيرة هي التي تعيش أسوأ أيّامها وسط حالات التفكّك والتشرذم في الطريق إلى انتخابات محلّية بعد 3 أشهر.
مسألة التبريد والتسخين في مواقف وقرارات تركيا وسياساتها الخارجية استمرّت هذا العام أيضاً. بعضها تمّ الانتقال به إلى مرحلة التهدئة والتطبيع وبعضها ما زال فوق الصفيح الساخن القابل للتأزّم والانفجار.
في الداخل التركي نجح إردوغان وحزبه في الوصول إلى ما يريدان بعد انتصار ساحق على المعارضة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية منتصف هذا العام
ترتيب الأوراق مع واشنطن
قطعت تركيا في عام 2023 شوطاً كبيراً في مسار إعادة ترتيب أوراقها في ملفّات سياسية واقتصادية وأمنيّة عديدة مع واشنطن، لكنّ أسباب توتّر علاقاتها مع الحليف الأميركي ما زالت قائمة وربّما ستتفاعل باتجاه التصعيد والتسخين أكثر إذا ما استمرّت الأمور على ما هي عليه في قراءات متباعدة ومتضاربة، في سوريا وفلسطين وعضوية السويد الأطلسيّة وعرقلة واشنطن لصفقة المقاتلات التركيّة التي تحتاج إليها، وملفّات الطاقة في شرق المتوسّط وتمسّك أنقرة بعلاقاتها الواسعة مع الشريك الروسي.
حاول الرئيس التركي أن يمدّ يده نحو تل أبيب لإصلاح العلاقات السياسية بين البلدين، لكنّه سحبها فوراً بعد المجازر التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة ضدّ الشعب الفلسطيني. يطالب بإزاحة نتانياهو لكن لا يحمّله وحده المسؤولية، بل يصعّد ضدّ العواصم الغربية التي يصفها بالشريك الأكبر لإسرائيل في ما تقوم به.
ملفّات كثيرة مجمّدة تنتظر الحلول أيضاً يتقدّمها الملفّ السوري وكيف سيكون شكل تعامل أنقرة مع الموضوع، حيث تتمسّك موسكو وطهران بترتيب قمّة تركية سورية ومحاولة تفعيل أعمال الطاولة الرباعية. هذا إلى جانب مسار العلاقة مع بغداد بشقّها السياسي والأمنيّ والاقتصادي، وشكل العلاقة التركية الروسية حيث يستعدّ بوتين ليكون بين أوّل الزائرين للعاصمة التركية في العام الجديد، لتدشين المزيد من مشاريع التعاون الاستراتيجي في مجالات الطاقة والتجارة والملفّات السياسية الحسّاسة التي تعني البلدين.
مسار عام 2024
عناوين كثيرة توجز أبرز الأحداث التي عاشتها تركيا في عام 2023، بينها السياسي والأمنيّ والاقتصادي على المستويات الداخلية والخارجية، وتمهّد لاستشفاف مسار عام 2024، ويتقدّمها:
– احتفالات مئويّة الجمهورية ومرور قرن على إعلانها عام 1923 من قبل المؤسّس مصطفى كمال أتاتورك.
– الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي عاشتها تركيا في منتصف العام وأبقت إردوغان وحزبه لخمس سنوات جديدة في مقعد القيادة، وحيث تتابع المعارضة التركيّة المشهد بغصّة حزبية وسياسية، وتواجه عمليات التفكّك والشرذمة، خصوصاً بعد إزاحة زعيمها كمال كيليشدار أوغلو والضربات العنيفة التي يتلقّاها حزب ميرال أكشينار “إيي بارتي” من الداخل.
– الضغوطات الغربية التي تتعرّض لها أنقرة لإقناعها بتسريع عملية قبول عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي، وهو الملفّ الذي تمّت إحالته إلى البرلمان بطلب من الرئاسة التركية وينتظر هناك منذ أسابيع طويلة. عضوية السويد الأطلسية بالنسبة لتركيا لا يمكن قبولها دون الأخذ بما تقوله وتريده القيادة التركية.
قطعت تركيا في عام 2023 شوطاً كبيراً في مسار إعادة ترتيب أوراقها في ملفّات سياسية واقتصادية وأمنيّة عديدة مع واشنطن، لكنّ أسباب توتّر علاقاتها مع الحليف الأميركي ما زالت قائمة
تسير أنقرة نحو العام الجديد وسط أجواء تفاؤل وانفتاح وتهدئة، لكنّ هناك ما يقلق أيضاً:
– قدم في البارد مع فريق عمل وزاري واقتصادي جديد، وتسليم الثلاثي هاكان فيدان وإبراهيم كالين ومحمد شيمشاك دفّة القيادة إلى جانب إردوغان في ملفّات الداخل والخارج. وقدم في الساخن بعد تصريحات رئيسة البنك المركزي حفيظة غايا أركان قبل أيام وهي تشتكي من ارتفاع قيمة أجور المنازل في إسطنبول، الذي دفعها للعيش مع والدتها في منزل واحد. فجاءها الردّ السريع حول ما الذي يفعله المواطن العاديّ الذي يعيش بالحدّ الأدنى للأجور بينما تتقاضى هي عشرات آلاف الليرات؟
– قدم في البارد مع الإعلان الأوّلي عن أرقام السياحة وعائداتها على الخزينة التركية بعد تحطيم رقم أكثر من 50 مليون زائر في العام، وتمركز مطار إسطنبول الجديد بين الدول الخمس الأولى في العالم لناحية الاستقبال وتنظيم الرحلات وحركة الطيران الآمن. لكنّ القدم الأخرى في الساخن، فهناك أزمات دستورية واجتماعية ووعود إطلاق خطط تغيير وتعديل وإصلاح تنتظر منذ أعوام.
– قدم في البارد نتيجة التقارب التركي الروسي، وقدم في الساخن لأنّ ما يجري يغضب واشنطن التي تلوّح باللجوء إلى عقوبات جديدة على تركيا، بسبب خرق الحظر الغربي المفروض على روسيا.
– قدم في البارد مع إعلان إردوغان من المجر عن رغبة بلاده في العودة إلى تفعيل اتفاقية نقل الحبوب من القرم إلى الخارج التي جُمّدت بعد انسحاب موسكو منها. وقدم في الساخن، فالكرملين لا يريد التخلّي عن مواقفه التصعيدية ضدّ كييف وكلّ من يحاول تغيير التوازنات في البحر الأسود، وهي بين الرسائل التي تقلق أنقرة قبل غيرها.
– قدم في البارد بعد التحوّلات في سياسة تركيا الخارجية مع العالم العربي، وجلوس إردوغان كضيف شرف في قمّة الدوحة الخليجية الأخيرة، وانفتاح أنقرة السياسي والاقتصادي الواسع على القاهرة بانتظار القمّة الرئاسية بين إردوغان والسيسي في العام الجديد. وقدم في الساخن مع المجموعة الأوروبية والعواصم المتشدّدة في تجميد مسار العضوية التركية وتحاول عرض البدائل التي تعوّض أنقرة عن خسارة استراتيجيّة كبيرة من هذا النوع.
– قدم في البارد بعد تراجع التوتّر في جنوب القوقاز والتقارب بين باكو ويريفان ومسار التطبيع الجديد بين تركيا وأرمينيا. وقدم في الساخن بعد الإعلان عن مشروع خطّ الهند التجاري الذي يستبعد تركيا نتيجة انفتاحها على خطّ الحرير الصيني ومحاولة بناء خطّ تجاري إقليمي بالتنسيق مع العراق.
– قدم في البارد مع أثينا بعد زيارة الرئيس التركي الأخيرة للعاصمة اليونانية وإعلانه من هناك فتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين. وقدم في الساخن مع واشنطن التي تحاول إفساد هذا التقارب من خلال بناء المزيد من القواعد العسكرية في اليونان وجزيرة قبرص تحت ذريعة مواجهة النفوذ الروسي، بينما ترى أنقرة في ذلك خطراً على أمنها القومي ومصالحها الإقليمية.
– قدم في البارد حيث يستعرض وزير الدفاع التركي يشار غولار أرقام العمليات التي نُفّذت داخل تركيا وخارجها في الحرب على المجموعات الإرهابية. وأخرى في الساخن حيث تتّهم أنقرة الولايات المتحدة بالعمل في سوريا ضدّ مصالحها عبر دعم مجموعات “قسد” و”مسد” هناك التي تشكل تهديداً لأمنها القومي، محمِّلة واشنطن مسؤولية التغاضي عن نشاطات “قسد” وحزب العمال في سوريا وتهديد أمنها كما جرى في مطلع تشرين الأول المنصرم عند استهداف قلب العاصمة التركيّة.
إقرأ أيضاً: هل هو عام فلسطين في العالم؟
المراجعات الجذريّة
دخلت تركيا أجواء عام 2023 بمؤشّرات إيجابية أكبر بالمقارنة مع أجواء العام المنصرم. هناك مراجعات جذرية للسياسات والبرامج والخطط الاقتصادية والماليّة ومواجهة ارتدادات الأزمات على المواطن، وإعادة خطط التموضع والتناغم في حراك الداخل والخارج من خلال اتّخاذ قرارات التعامل مع ملفّات سياسية وأمنيّة واقتصادية ما زالت تنتظر، إلى جانب اكتشافات الطاقة الجديدة في البحر الأسود وجنوب شرق البلاد، التي شكّلت كلّها أبرز معالم وسمات العام بالنسبة لتركيا.
هناك سياسة ماليّة مصرفية جديدة اعتباراً من النصف الثاني من عام 2023 تتعارض مع ما كان يقال ويطبّق على الأرض. أسعار الفائدة المصرفية تسير باتجاه معاكس لما قيل، وسعر صرف الليرة تراجع نسبياً بالمقارنة مع أرقام عام 2022، وفريق عمل وزير الاقتصاد التركي الجديد محمد شيمشاك يقول إنّه يتبنّى سياسة واقعية جديدة مغايرة لبرامج وخطط سابقة من بينها التخلّي التدريجي عن نظام الإيداع المحميّ بالليرة الذي كلّف الخزينة أعباء مالية ضخمة بعدما قيل أنّه العصا السحرية التي ستُخرج البلاد من أزماتها.
تركيا على أبواب العام الجديد وقدمها في البارد بعد فوز منتخب السيّدات ببطولة العالم والبطولة الأوروبية لكرة الطائرة وإهداء الفوز للشعب التركي، والأخرى في البارد أيضاً مع إعلان مؤسسة “موديز” العالمية لتقويم أوضاع دول العالم الاقتصادية والماليّة أنّه في حال واصلت تركيا سياساتها الماليّة الحالية فستنتقل إلى مرتبة المسار الإيجابي في الأسابيع المقبلة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Profsamirsalha@