تتميّز الزيارة الرابعة للبنان التي سيقوم بها المبعوث الرئاسي الفرنسي “جان إيف لودريان”، المتوقّع انطلاق محادثاته اليوم الأربعاء، عن سابقاتها من الزيارات بميزتين من حيث الشكل والمضمون وبحدثٍ يحمل الكثير من الدلالات، حيث استبق زيارته إلى بيروت بزيارة العاصمة السعودية الرياض فالتقى المستشار نزار العلولا وشدّد الطرفان على أهمية استقرار لبنان وأمنه وضرورة الإسراع في إجراء الانتخابات الرئاسية، فيما وصف السفير الفرنسي لودفيك بويل في تعليق له على منصة “إكس” قائلاً: “لقاء مثمر في الرياض بين السيد جان إيف لودريان المبعوث الخاص لرئيس الجمهورية الفرنسية للبنان، ومعالي الأستاذ نزار العلولا المستشار في الديوان الملكي. فرنسا والمملكة العربية السعودية تعملان معاً يداً بيد من أجل استقرار لبنان وأمنه، ولإجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية في أسرع وقت”. وبالعودة إلى الميزتين:
1- من حيث الشكل: لا تختلف زيارة لودريان عن زيارات المبعوثين الدوليين في الأيام الأخيرة لبيروت لجهة التركيز على مشاورات تحمل الكثير من نكهات النصح والتحفيز والحثّ، وقليلاً من التنبيه والتهديد أحياناً بعدم الاستهتار والتمادي والغلوّ، بخاصة لجهة التطوّرات الأمنيّة على الحدود الجنوبية.
2- من حيث المضمون: تتميّز زيارة لودريان عن باقي الزيارات أنّها تفترق بالعمق حتى إنّها لا تشبه في تكتيكها زيارة كلّ المسؤولين الدوليين، وحتى الفرنسيين الآخرين منهم، خاصة وزيرة الخارجية الفرنسية “كاترين كولونا” وأيضاً وزير الدفاع “سيباستيان لوكورنو”.
يمثّل المسؤولون سياسة بلادهم وإداراتهم وتطلّعاتها فقط. فيما لودريان في زيارته الرابعة سيتحدّث باسم الإدارة الرئاسية الفرنسية والفريق الخماسي الدولي، المولج مساعدة لبنان على تخطّي الأزمة السياسية الاقتصادية.
مصدر رئاسي فرنسي أبدى لـ”أساس” تخوّف فرنسا من خلال معلومات من داخل الكيان الإسرائيلي، مفادها تأييد ودعم بعض جنرالات سلطات الاحتلال الإسرائيلية خيار فتح الجبهة الجنوبية اللبنانية
هدفان من وراء الزيارة
تتمحور زيارة المبعوث الفرنسي “جان إيف لودريان” على هدفين اثنين:
1- الهدف الأوّل: المهمّة الأساسية المكلّف بها، وهي حلّ الأزمة السياسية اللبنانية والحلّ السريع للشغور الرئاسي، من خلال الحثّ على تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات وتفعيل عمل الإدارات والمؤسسات وتفادي الشغورات الجمّة، وخاصة على رأس المؤسّسة العسكرية، ومعالجة الموضوع المالي والنقدي ومكافحة الفساد. ينسّق ممثّل الرئاسة الفرنسية بشكل تامّ مع الفريق الخماسي، وخاصة المملكة العربية السعودية. يدعم الحلول تحت سقف الدستور اللبناني وتفعيل القوانين والقرارات الدولية بمظلّة البيان الثلاثي.
2- الهدف الثاني: أمنيّ وعسكري. أرخت ظلال الهاجس الأمنيّ والخوف من الحرب على الحدود الجنوبية اللبنانية، وحجبت الضوء عن الملفّات والمبادرات السياسية. إذ بات تجنيب لبنان الحرب هو الأولوية المستجدّة، خصوصاً بعد حرب السابع من تشرين. هذا ويعرف لودريان لبنان جيّداً بكلّ تفاصيله ومكوّناته، وحتى تناقضاته وضعف سلطاته وفراغاته. هو عالم بشؤون الأمن والدفاع، إذ كان وزيراً للدفاع والجيوش الفرنسية. يتخوّف من مدى تأثير الشغور الرئاسي والشلل الحكومي والفراغ القيادي في المؤسّسة العسكرية على إمكانية جنوح لبنان نحو الفوضى، وانغماسه في الحرب بصورة شاملة، ولذلك تريد الإدارة الفرنسية وشركاؤها تحصين لبنان أمنيّاً وعسكرياً وإبعاده عن شبح الحرب. ينسّق من أجل المحافظة على الحدّ الأدنى من الاستقرار عبر السعي إلى تحقيق سريع للاستحقاقات السياسية الدستورية النافعة للبنان، التي من شأنها تحييد لبنان عن الخطر.
لبنان حاضر في الكواليس
لم يغِب لبنان منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة عن كواليس مسرح الأحداث واللقاءات والمشاورات. حضر مع زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” وكلّ من وزيرة الخارجية “كاترين كولونا” والدفاع “سيباستيان لوكورنو” وغيرهم. لكن اختلفت طريقة مناقشة الملفّ اللبناني، بما يتناسب مع الواقع من تطوّرات ومن بوّابة حرب غزة. تمحورت كلّ الأفكار حول تطبيق الآليات العملية والآنيّة التي تؤدّي إلى حماية لبنان والتخفيف من حدّة الحرب على داخله، بدءاً من الالتزام بالقرارات الدولية وفي مقدَّمها الـ1701 والتعاون البنّاء والمرن والشفّاف مع قوات اليونيفيل، والحفاظ على المناخ الاستقراري والثبات اللوجيستي العسكري والمجتمعي المحلّي.
ضغطت الإدارة الفرنسية منذ بداية الحرب، مع كلّ من الإدارة الأميركية والنظام الإيراني، وبتنسيق تامّ مع الدول العربية، في سبيل عزل لبنان وتحييد جبهته وفصله التامّ قدر الإمكان عن الحرب في فلسطين المحتلّة. مصدر رئاسي فرنسي أبدى في تصريح لـ”أساس” تخوّف فرنسا من خلال معلومات من داخل الكيان الإسرائيلي، مفادها تأييد ودعم بعض جنرالات سلطات الاحتلال الإسرائيلية خيار فتح الجبهة الجنوبية اللبنانية.
لم يغِب لبنان منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة عن كواليس مسرح الأحداث واللقاءات والمشاورات
عندها تحرّكت الإدارة الفرنسية من أجل العمل على إسقاط “وحدة الساحات” في مقابل توحيد العمل في الاتفاقات والقرارات الدولية التي تصون السلم والاستقرار. عملت بتواصل مباشر مع كلّ من الدول العربية والنظام الإيراني والإدارة الأميركية على لجم وحصر المناوشات على الحدود الجنوبية اللبنانية مع فلسطين المحتلّة ضمن فكرة قواعد الاشتباك ليس أكثر. حاولت فرنسا مع بعض الدول عزل الجبهة اللبنانية عن داخل فلسطين المحتلّة، وتأمين الحدّ الأدنى من استقرارها.
مبدأ “الالتزام الاستباقيّ” بمنع وصول الحرب إلى لبنان
تنادي فرنسا بضرورة العمل بمبدأ “الالتزام الاستباقي” الهادف إلى منع تصدير الحرب من قطاع غزة إلى داخل الأراضي اللبنانية. هو ما عكفت عليه مع الجميع. ساهم في تثبيت هذ المبدأ ظهور “أربع لاءات” عربية، أميركية، فرنسية وإيرانية مختلفة ومتناقضة، لكنّها تجتمع على واقع وحيد، وهو ضرورة الحفاظ على الاستقرار اللبناني:
1- العربية: لا تريد أيّ حرب في لبنان بل تعمل على استقراره. تريد منه أن يكون جزءاً من الإجماعين العربي والدولي.
2- الأميركية: لا تريد حرباً تهدّد اتفاق الترسيم الذي يُعتبر اتفاق سلام مقنّع بين كلّ من الجانب اللبناني والكيان الإسرائيلي، وهو أقوى مفعولاً في نظرها من الـ1701 وتعمل على الترسيم البرّي بين البلدين.
3- الفرنسية: لا تريد حرباً أو صراعاً جديداً في لبنان يهدّد واقعها المجتمعي والداخلي في فرنسا، ويغيّر من طبيعة الدولة اللبنانية ويضعفها، وبالتالي يؤثّر على مزايا وجودها التاريخي في لبنان والمنطقة، وكذلك إدارتها للكونسورتيوم النفطي الثلاثي.
4- الإيرانية: لا تريد حرباً تضعف الحزب “درّة تاجها وثمرة عملها الذهبي”. لا تقبل بحرب تضعف الحزب وتقوّض من سيطرته على مفاتيح ومكامن الدولة في لبنان، وهو ما أدّى من خلال الضغط الفرنسي على إسقاط مبدأ وحدة الساحات، حيث فصلت كلّ الساحات الممانعة المجاورة لفلسطين المحتلّة عمّا يجري داخل قطاع غزة وانحصر الأمر ببعض المناوشات المحدودة.
جرى هذا الأمر مع التأكيد أن ليس من إمكانية لتقريش هذه التنازلات داخل لبنان وصرفها داخل النظام اللبناني الحالي أو حتى في المستقبل. إذ لا تشبه الساحة الفلسطينية الساحة اللبنانية ولا حتى العراقية ولا اليمنية. حيث تركت أمور التحديثات والتفاهمات عبر التسويات السياسية الإقليمية الدولية وليس العسكرية الحربية، كالتقارب السعودي الإيراني والمفاوضات والوساطات المباشرة وغير المباشرة بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني بفضل الجهود العمانية والقطرية.
إقرأ أيضاً: فرنسا خائفة: ماكرون واحد من ضحايا غزّة
لا تعويل على الزيارة بالسياسة
لا يعوّل الإليزيه ولا حتى “لودريان” كثيراً على النتيجة السياسية من هذه الجولة الرابعة المرتقبة. فهو قد أعلن عن صعوبة الحالة اللبنانية وضياع قادة لبنان السياسيين وفشلهم. لكنّهم ملتزمون مساعدة لبنان ودعمه، وهم لن يحيدوا عن ذلك. يتركّز هدف لودريان والإدارة الفرنسية على الموضوع الأمنيّ والعسكري الذي بات يشكّل هاجساً وعامل ارتياب. يسعون إلى حماية وتحصين لبنان، وعزل ساحته وتأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار. يدعمون القوات الدولية المشاركين في عديدها، ويعينونها لاستكمال وإنجاح مهامّها في حفظ الأمن والسلام، عبر تكريس التزام القرارات الدولية، وعلى رأسها الـ1701. كلّ ذلك من أجل منع دخول البلاد في المجهول.