انفجر السجال داخل الحكومة الإسرائيلية، وبين الأطياف السياسية، حول كيفية مواجهة الواقع المالي الصعب الذي أورثته الحرب، والذي قد يشكّل بحدّ ذاته أحد العوامل الأساسية التي ستعيد رسم المشهد السياسي.
حدثان يمكن إدراجهما في هذا الإطار:
1- إقرار الحكومة الإسرائيلية للموازنة الاستثنائية الإضافية لتغطية تكاليف الحرب في ما بقي من العام الحالي.
2- التقديرات المفصّلة التي أعلنها البنك المركزي الإسرائيلي لفاتورة الحرب، وهي قريبة من 53 مليار دولار.
رصدت الموازنة الاستثنائية التي صوّتت عليها الحكومة مساء الإثنين 30.3مليار شيكل (8.1 مليارات دولار) إضافية لتغطية تكاليف الحرب. يشمل هذا الرقم اعتمادات إضافية بنحو 4.6 مليارات دولار لتغطية النفقات العسكرية، ونحو 3.6 مليارات دولار للتعويضات عن الأضرار والمصاريف الأخرى “المدنية” المرتبطة بالحرب. لكنّ الجدل تفجّر داخل الحكومة مع بيني غانتس، الشريك الجديد الذي دخل الائتلاف الحاكم وحكومة الحرب الشهر الماضي، بسبب إصرار وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، مدعوماً من رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، على تضمين الموازنة اعتمادات بنحو 240 مليون دولار للمدارس التوراتية و”مشاريع الهويّة اليهودية” في مستوطنات الضفة الغربية، واقتصار التخفيضات في بنود الميزانية على أربعة مليارات شيكل، أي ما لا يزيد على 14% من الموازنة الطارئة.
أدّى هذا الخلاف إلى انسحاب بيني غانتس مع وزراء حزبه (الوحدة الوطنية) الخمسة، من اجتماع الحكومة فور تصويتها على الموازنة. وترافق ذلك مع هجوم شديد من زعيم حزب “يش عتيد” المعارض يائير لابيد على الحكومة، متّهماً إياها بالعودة إلى السياسات التي “تمزّق الأمّة”.
تُظهر استطلاعات الرأي حتى الآن أنّ بيني غانتس سيخرج بأكبر المكاسب من الحرب
تتلخّص مطالب غانتس ولابيد بتوجيه كلّ الموازنة الإضافية إلى النفقات الحربية وتكاليف التعويضات وإخلاء السكان من مناطق الحرب، والتخلّي عمّا يسمّى “مصاريف الائتلاف”، التي هي كناية عن الاعتمادات التي تمّ التوافق عليها بين نتانياهو وأحزاب اليمين المتطرّف في إطار صفقة تشكيل الائتلاف الذي أعاده إلى رئاسة الحكومة بعد الانتخابات الأخيرة.
لهذه الانقسامات بُعدان: ماليّ وسياسي. في البعد الماليّ، تتحوّل فاتورة الحرب إلى أكبر هزّة مالية يعيشها الكيان منذ الثمانينيات. فالتقرير الأحدث الذي نشره البنك المركزي الإسرائيلي الإثنين رفع تقديرات التكاليف الإجمالية للحرب على ميزانية الدولة إلى 198 مليار شيكل (53 مليار دولار) بين عامَي 2023 و2025، أي ما يعادل 10% من حجم الاقتصاد الإسرائيلي. وهذا الرقم لا يشمل خسائر القطاعات الاقتصادية، التي قدّرتها وزارة المالية الإسرائيلية سابقاً بنحو 270 مليون دولار كلّ يوم.
تلك التكاليف الضخمة ستؤدّي إلى ارتفاع عجز الميزانية الإسرائيلية إلى 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي في 2023، ثمّ إلى 5% من الناتج في 2024، وهذا تحوّل كبير لميزانية كانت قد سجّلت فائضاً العام الماضي. وسيؤدّي ذلك إلى قفزة للدين العامّ الإسرائيلي إلى 63% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام الحالي وإلى 66% بنهاية 2024، بينما كانت التوقّعات قبل الحرب تشير إلى انخفاضه إلى 58% العام المقبل.
تشير تقديرات البنك المركزي الإسرائيلي إلى أنّ النمو الاقتصادي سيتراجع إلى 2% في العامين الحالي والمقبل، مقارنة بـ 2.3% و2.8% في التوقّعات السابقة التي أصدرها البنك الشهر الماضي، بعد أيام من اندلاع الحرب.
تلك الآثار الماليّة والاقتصادية لها انعكاسات مجتمعية، إذ إنّ التباطؤ الاقتصادي يضرب بشكل أساسي الفئات المنتجة من الإسرائيليين أكثر بكثير من مجتمع الحريديم (المتديّن) الذي يعتمد بشكل كبير على الإعانات الحكومية المباشرة. فالفئات العلمانية هي التي تشكّل عماد قوات الاحتياط التي تقاتل على الجبهات، وهي التي تتضرّر من توقّف الأنشطة الاقتصادية. وقد بدأت آثار هذا التصدّع تظهر من خلال رفض أحزاب الوسط لأيّ زيادة في الإنفاق على المتديّنين.
أزمة الخطاب السياسيّ
في البعد السياسي المباشر، ثمّة ما هو أبعد من الخلاف على الأولويات الاقتصادية. فأجواء توحيد الخطاب السياسي بعد السابع من أكتوبر تلاشت إلى حدّ بعيد، وباتت الأحزاب تتحضّر لمرحلة ما بعد الحرب.
تُظهر استطلاعات الرأي حتى الآن أنّ بيني غانتس سيخرج بأكبر المكاسب من الحرب. ففي استطلاع للرأي أُجري منتصف الشهر الجاري ونشرت نتائجه صحيفة “معاريف”، سيزيد غانتس مقاعد حزبه من 12 إلى 43، فيما ستهبط مقاعد الليكود بزعامة نتانياهو من 32 إلى 18 مقعداً، وسيهبط عدد مقاعد ائتلافه اليميني من 64 إلى 41 مقعداً، ولن يتمكّن حزب سموتريتش، “الصهيونية الدينية”، من عبور نسبة التمثيل في الكنيست.
هذه الاتجاهات لدى الرأي العامّ كفيلة بقلب المشهد السياسي إذا ما استمرّت حتى موعد الانتخابات المقبلة. وهذا ما يفسّر الموقف الذي اتخذه غانتس ولابيد من الموازنة الاستثنائية.
متى يرحل نتانياهو؟
لكنّ السؤال الأكبر يبقى: متى سيكون موعد الانتخابات؟
في حسابات الإدارة الأميركية أنّ رحيل نتانياهو وائتلاف اليمين المتطرّف ضرورة لإطلاق أفق سياسي لمرحلة ما بعد الحرب على قاعدة “حلّ الدولتين”. وفي حسابات نتانياهو نفسه أنّ وقف إطلاق النار سيعيد إطلاق محرّكات اللعبة السياسية حتى النهاية، وستشتدّ الضغوط عليه للإقرار بمسؤوليّته عن إخفاقات 7 أكتوبر، وهو ما يتهرّب منه حتى الآن، لأنّه يدرك الخطوة التالية لن تكون إلا الضغط لإسقاط حكومته. ولذلك فإنّ ائتلاف اليمين المتطرّف يحتاج إلى إطالة أمد الحرب أوّلاً، وتمتين تحالفه ثانياً، لأنّه يدرك أنّ أيّة انتخابات مبكرة ستخرجه من الحكم وقد تؤدّي به إلى السجن بعد ذلك.
إقرأ أيضاً: ساعة الحرب: عقارب الاقتصاد تدق في أذن نتنياهو
السجال حول الموازنة الاستثنائية يبدو كما لو أنّه ينتمي إلى مرحلة ما بعد الحرب، ولو أنّه بدأ في أيام الهدنة. ولعلّ تلك هي الإشارة الأوضح إلى أنّ الطيف السياسي الإسرائيلي يتحضّر لمعارك الداخل، بعد أن يتوقّف صوت القذائف.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@