الفلسطينيّون يستحقّون أكثر ممّا يطلبون

مدة القراءة 4 د


في واحدة من أهمّ قصائده، وأوسعها انتشاراً، اختتم الشاعر العظيم محمود درويش قصيدة “مديح الظلّ العالي” بكلمات قليلة تجسّد ببلاغة عميقة المعنى والدلالة الحالة الفلسطينية، إذ قال: “ما أعظم الفكرة… ما أصغر الدولة”.
كانوا قليلي العدد، متواضعي الإمكانيات كتلك المتوفّرة للشعوب الأكبر منهم. قبل نكبتهم، بنوا مدائن وحضارة، وأنتجوا أجيالاً من الروّاد في كلّ مجالات الإبداع الإنساني، وما من بلد بعيد أو قريب إلا وكان للفلسطيني حضور مميّز فيه.
غير أنّ هذا الفلسطيني ومنذ الأزل، لم تكن له دولة، ولا هويّة أصلية يضعها في جيبه، أو جواز سفر أصدرته دولته، ولم يبقَ له من وطنه الذي سُلب منه، سوى بطاقة زرقاء وخيمة، وصفةٍ طُبعت على حاله بمفردة “لاجئ”.
حتى الذين لم يسكنوا الخيام، فقد ظلّت الخيمة متجذّرة في وعيهم كمصير لا بدّ منه. حتى الأثرياء منهم، فالقصر في أيّ مكان غير القصر في وطنهم الأصلي، يظلّ مجرّد خيمة، لكن من حجارة.
رحلة الفلسطيني من النكبة إلى آخر قذيفة دمّرت بيتاً في غزة، وقتلت مَن فيه من رجال ونساء وأطفال، بدأت حين لم يتمكّن المواطن الذي صار لاجئاً من حمل شيء إلا مفتاح بيته، كي لا يفارقه حُلم العودة إليه.
إلى جوار الخيمة أقام خيمة أوسع كمدرسة، ذلك قبل أن تقرّر “إنسانية” القرنين العشرين والحادي والعشرين، بناء مدارس لأبناء اللاجئين، وتقديم وجبة من حليب كتب عليها “وكالة الغوث”.

لقد حرّكت “الفلسطينية” العواصم من أقصى الكون إلى أقصاه، وأيقظت ملايين الضمائر النائمة، إن لم نقل الميتة، من غفوة طويلة وعميقة، إلى صحوة

حوَّل الفلسطيني قدره.. من ضحيّة إلى صانع حاضر ومستقبل. كانت الرحلة من بداياتها إلى يومنا هذا رحلة ملحميّة تقترب من الأسطورة. ولو وقف مسنّ من أهل البدايات على أطلال غزة المدمّرة، وفوق المقابر الجماعية المنتشرة في كلّ مكان، وأدّى صلاة الجنازة على خمسة آلاف طفل فارقوا الحياة قبل أن تبدأ، وشرب ماءً ممزوجاً بالملح، ونسي ذلك المستحيل الذي اسمه الكهرباء، فماذا يرى؟ وماذا يقول؟
“إنّ القلب ليحزن والعيون لتجفّ من الدموع”. إلا أنّ أمراً كبيراً أقرب إلى المعجزة يتحقّق، إنّه التحوّل من حالة كانت إلى حالة ستكون…

من الفلسطينيّة كمأساة إلى الفلسطينيّة كظاهرة
لقد حرّكت “الفلسطينية” العواصم من أقصى الكون إلى أقصاه، وأيقظت ملايين الضمائر النائمة، إن لم نقل الميتة، من غفوة طويلة وعميقة، إلى صحوة سيكون لها ما بعدها. فـ”الفلسطينية” لم تعد مجرّد مأساة تستدرّ الشفقة ووجبات الإغاثة.
كما لم تعد مشروع إبادة شعب وتصفية حقوق، وتزوير هويّة لمجرّد وجود طائرات ودبّابات بحوزة خصمه وجدار أميركي يستند إليه هذا الخصم وبيت مال يغرف منه بلا حساب… لقد تحوّلت “الفلسطينية” إلى جدارة بناء حاضر ومستقبل.
الطفل الفلسطيني “القتيل” دخل كلّ بيت على وجه المعمورة وأنذر كلّ طفل، بأنّه إن لم يمت اليوم فقد يموت غداً، والموت غالباً ليس موت جسد بل موت ضمير.

في أجندات السياسة، وعلى موائد صنّاعها الكبار، تُقيَّد فلسطين تحت بند “قضية مستعصية لم تجد حلّاً”. ويُقيَّد الفلسطينيون على أنّهم “مجموعة بشرية.. يتداول العالم في كيف يوقف نزفهم أو يخفّف منه بعض الشيء”، ليس حرصاً على حقّهم في الحياة وإنّما لتلوين صورة الضمائر النائمة ببعض الألوان الزاهية.

إلى هنا وكفى
يقول الدم الفلسطيني والغضب الفلسطيني والتمرّد الفلسطيني والموت الفلسطيني: “إلى هنا وكفى”.
حقّاً نريد دولة لنا، تصدر هويّاتنا، وجوازات سفرنا، وتجمع شمل شتاتنا، وليجد الفلسطيني الذي شرّد في كلّ أرجاء الكون مطاراً يهبط فيه، لا مطاراً فيه تفتيش عسكري يبحث عن سبب لمنعه من الدخول. يريد ميناءً على شاطئ البحر الفلسطيني، مكتوباً على منارته: “أهلاً بكم في غزة، العاصمة الثانية لفلسطين”.

إقرأ أيضاً: نتانياهو يطارد فرصته الأخيرة

يريد فضاءً خالياً من زحام الطائرات التي تلاحق حياته كي تجبره على البحث عن حياة أخرى في صحراء قريبة أو بعيدة.
هذا هو أقلّ القليل ممّا يريد الفلسطيني ويحتاج ويستحقّ. وربّما كلّ ما تقدّم يفسّر ما قاله شاعرنا العظيم محمود درويش: “ما أعظم الفكرة.. ما أصغر الدولة”.
الفلسطيني يطلب القليل بعدما قدّم الكثير كي يواصل الحياة. والفلسطينيون يستحقّون أكثر ممّا يطلبون.

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…