تتّفق معه أو تختلف. يعجبك ما يقول ويفعل أو لا يعجبك. لكنّك ملزم بقبول موقعه ودوره في رسم معالم السياسة الخارجية الأميركية لسنوات بشكل مباشر وهو يجلس على كرسي وزارة الخارجية في واشنطن، أو بشكل غير مباشر وهو يحاول التخطيط والتأثير في صناعة قرارات الرؤساء الذين عايشهم وعمل معهم. ربّما هنري كيسنجر هو الأكاديمي والدبلوماسي والسياسي الأميركي الوحيد الذي نجح في فرض نفسه على الجناحين اللذين يديران اللعبة الحزبية والسياسية في أميركا من ديمقراطيين وجمهوريين. وأصبح الحكَم والحكيم وصاحب لقب شخصية فوق الأحزاب والحسابات والمصالح السياسية الضيّقة. وكان دائماً في موقع “بريموس إنتر باريس” (وهي عبارة باليونانية القديمة، وتعني “الأوّل بين متساويين”) في صفوف الشخصيات والقيادات الدبلوماسية والفكرية التي تموضعت في مبنى الخارجية ” فوغي بوتوم ” لسنوات طويلة.
هانز ألفرد هنري كيسنجر يهودي ألماني أميركي. هربت أسرته من بافاريا الهتلريّة في عام 1938 إلى نيويورك. دعمته عائلة روكفلر وقرّبته من إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون ليتدرّج ويترقّى في المناصب والمهامّ، من مستشار للرئيس إلى مستشار للأمن القومي وبعدها وزير للخارجية. انسحب نيكسون بسبب فضيحة “ووترغيت” لكنّه واصل مع خلفه جيرالد فورد حتى عام 1977.
كان المخطّط الأكبر لضرب العلاقات والمصالح السوفيتية في أكثر من بقعة جغرافية، بينها الشرق الأوسط وإفريقيا، ودعا إلى التقرّب من الشيوعية الصينية التي هي غير الشيوعية السوفيتية
يغادر كيسنجر بعينين نصف مفتوحتين قلقاً على ما سيحلّ بالكثير من الملفّات التي أسّس لها في السياسة الخارجية الأميركية على مدى 70 عاماً، وما تركه من ميراث سياسي ودبلوماسي وعشرات المؤلّفات والدراسات التي كتبها أو كُتبت عن مواقفه وقراراته ورؤيته وهو في مركز القرار مع العديد من الرؤساء والوزراء والدبلوماسيين.
جيشٌ من “الوَرَثَة”: التفتيت بدل الدمج
لا يتوقّف ميراثه عند حدود إنجازاته على رأس الدبلوماسية الأميركية لعقود، بل يشمل أيضاً جيشاً من الخبراء والمستشارين الذين أعدّهم لمواصلة القيادة ويشرفون على صناعة القرار في المحافل السياسية والاقتصادية والاستخبارية الأميركية حتى اليوم.
كيسنجر هو الذي قال إنّ إسرائيل ومصالحها فوق كلّ اعتبار، وإنّ الانفتاح على الصين أفضل من التصعيد والتحدّي، وإنّ علينا أن لا نبالغ في إغضاب تركيا.
هو صانع التهدئة بين القطبين الكبيرين والمشرف على القمّة التاريخية الأميركية السوفيتية في زمن الحرب الباردة وفي أصعب الظروف الإقليمية والدولية.
إنّه منظّم عملية الانسحاب من مستنقع فيتنام بعد كلّ الخسائر والأضرار التي لحقت بأميركا هناك، ومهندس القمّة الأميركية الصينية عام 1972.
حاز جائزة نوبل للسلام على جهوده في فيتنام، على الرغم من أنّ هناك من يحمّله مسؤولية سقوط واشنطن في مستنقعات كمبوديا وتشيلي والأرجنتين.
منح تل أبيب ما تريده من دعم عسكري، ومن بينه خططها العسكرية النووية، لكنّه كان منقذ إسرائيل من مستنقع عام 1973، وصانع كامب ديفيد عام 1979، والممهّد لاتفاقيات صلح وسلام عربي إسرائيلي وراعي خروج إسرائيل من عزلتها، والداعم الأوّل لتحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني – إسرائيلي.
هو صاحب نظرية التفتيت ثمّ الدمج في هيكلية العديد من الدول كما حدث في تقسيم جزيرة قبرص في عام 1974 الذي يمثّل نموذجاً إقليمياً يحتذى به لترسيخ الاستراتيجية الأميركية الجديدة القائمة على التفتيت لبناء الفدراليات والكونفدراليات بدلاً من الدمج والتوحيد لإنشائها كما هو حال التجربة الأميركية.
كان المخطّط الأكبر لضرب العلاقات والمصالح السوفيتية في أكثر من بقعة جغرافية، بينها الشرق الأوسط وإفريقيا، ودعا إلى التقرّب من الشيوعية الصينية التي هي غير الشيوعية السوفيتية.
هو أبرز المخطّطين للحرب الأميركية في العراق عام 2003 عبر تلامذته الذين وصلوا إلى مواقع القرار في الخارجية والبيت الأبيض.
توفّي هنري كيسنجر والقيادات الإسرائيلية والصينية هي من عليها أن توجد في الصفّ الأول خلال مراسم العزاء ودفن الفقيد
“وُلد ليصنع التاريخ وليس ليقرأه”
بدأ كيسنجر حياته الجامعية والأكاديمية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية معتدلاً منفتحاً مثالياً في النظرة والأسلوب وطرح الأفكار وتبنّيها، ثمّ تحوّل بعد دخوله المعترك السياسي الدبلوماسي العملي إلى براغماتي من الطراز الأول يساوم على كلّ شاردة وواردة. كان اللاعب الأوّل في رسم معالم السياسة الخارجية الأميركية في الفترة الواقعة بين عامَيْ 1969 و1977. غادر الوزارة لكنّ ظلّه بقي في مبنى الخارجية الأميركية حيث يقود المشهد كوادر ودبلوماسيون أشرف على تدريبهم وتجهيزهم لمواصلة المهمّة من بعده.
عشرات المؤلّفات كتبها بنفسه أو كُتبت عنه وجاءت ملخّصة في “الدبلوماسية” و”القيادة” و”النظام العالمي الجديد” وتُوّجت بـ”ميدان وبرج”، وهي المؤلّفات الأربعة الأهمّ التي تلخّص الكثير من مواقفه وقراراته. وُلد ليصنع التاريخ وليس ليقرأه كما قال هو عن نفسه. هروبه مع أسرته من هتلر ألمانيا كان فرصته الكبيرة الدراسية والمهنية وهو ينتقل في الوقت المناسب إلى المكان المناسب. شارك إلى جانب الجيش الأميركي في تحرير ألمانيا من هتلر، لكنّه ليس السبب الوحيد الذي مكّنه من الوصول. حتماً لميزاته الشخصية مثل الذكاء الحادّ والثقافة الواسعة واقترابه من شخصيات مؤثّرة في صناعة القرار الدور الكبير في ذلك.
لم يكن محلّ إعجاب دائم في صفوف القيادات السياسية الأميركية. فشعاره المعروف “ننفّذ فوراً ما هو خارج القانون، لكنّنا نتريّث عندما يكون في الأمر ناحية قانونية، فهو يحتاج إلى بعض الوقت” يمثّل قمّة النفعية في تطبيق السياسة والدفاع عن المصالح.
كان الرئيس باراك أوباما بين أشدّ المنتقدين لسياساته: “أمضيت وقتاً طويلاً خلال مدّة رئاستي وأنا أحاول إصلاح الأضرار التي تسبّب بها هذا الرجل”، الذي لا يحبّ الجلوس أبداً في مقاعد المتفرّجين. لكنّ أوباما كان أيضاً في مقدَّم من كرّمه على جهوده وما قدّمه لأميركا.
مكيافللي جديد
ولد كيسنجر قبل قرن ليصنع التاريخ وليس ليقرأه كما قال هو عن نفسه، فتحوّل إلى أبرز شخصيات النصف الثاني من القرن العشرين. أبطال مسرحه هم ليسوا أنصار الوصول إلى النتائج بالقوة العسكرية مثل نابليون والإسكندر ويوليوس قيصر، بل أصحاب الدبلوماسية الناجحة في صناعة معالم وتوازنات الخرائط العالمية مثل الكاردينال روشوليو والدبلوماسي المحنّك مترنيخ صانع الوفاق الأوروبي وبسمارك محرّك أحجار الوحدة الألمانية.
إقرأ أيضاً: إرث كيسنجر الأهمّ: التفاوض… وعدم “كسر” أحد
من رموز الواقعية السياسية التي حوّلته إلى مكيافللي جديد بشكل متدرّج نتيجة مواقفه وقراراته في حرب فيتنام الأميركية وأوامر توسيعها باتجاه مناطق آسيوية جديدة في لاوس وكمبوديا تحت العنوان الدموي العريض “سياسة الأرض المحروقة”، الذي استفادت منه إسرائيل نظرية وتطبيقاً. وإسرائيل هي الدولة التي قدّم مصالحها على مصالح اللاعب الأميركي في الكثير من الأحيان انطلاقاً من الوفاء ليهوديّته والجالية التي فتحت الأبواب أمامه في نيويورك ليصل إلى ما يريد.
عبّد طريق التواصل بين واشنطن وبكين لكنّه قطع طريق التفاهمات وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي انطلاقاً من حاجة واشنطن وتل أبيب إلى استمرار التوتّر في هذا الملفّ حماية لمصالحهما في الشرق الأوسط.
توفّي هنري كيسنجر والقيادات الإسرائيلية والصينية هي من عليها أن تقف في الصفّ الأول خلال مراسم العزاء ودفن الفقيد.