هل يُستأنف القتال في قطاع غزّة؟ أم تسبق السّياسة مدافع الميدان؟
كلّ ما يحصل يشير إلى أنّ مرحلة ما بعدَ الهُدنة، إن لم يُكتَب لها التّمديد مُجدّداً، ستكون جولةً قتاليّة أعنَف مِمّا قبلها.
تتسابق اليوم السّياسة مع الميدان على أرض غزّة. رئيس جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز ورئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل ونظيرهما الإسرائيلي ديفيد برنياع وصلوا إلى العاصمة القطرية الدوحة للاجتماع مع رئيس الوزراء الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. حيث كشفت صحيفة “واشنطن بوست” أنّ زيارة بيرنز تهدف إلى التوسط لبحث صفقة شاملة بين حماس وإسرائيل.
ويسعى بيرنز لدفع حماس وإسرائيل لتوسيع نطاق مفاوضات الرهائن الجارية، والتي كانت محدودة حتى الآن بالنساء والأطفال، لتشمل إطلاق سراح الرجال والأفراد العسكريين أيضًا.
كذلك يسعى رئيس الاستخبارات الأميركية للوصول إلى وقف القتال لعدة أيام مع الأخذ بعين الاعتبار مطالب إسرائيل بإطلاق حماس سراح ما لا يقل عن 10 أشخاص لكل يوم هدنة. كما يحاول أن تشمل هذا المسعى الإفراج عن الرهائن الأميركيين الذين تحتجزهم حماس. وتقدر السلطات الأميركية عددهم بين ثمانية وتسعة.
فزيارة بيرنز إلى الدوحة تشير إلى تقدّم في هذا الملف، ما يرجّح أن تُمدّد الهدنة أياماً إضافية للإفراج عن مزيد من الأسرى، ومنهم حاملي الجنسية الأميركية.
ناقش المجتمعون في الدوحة طرحاً أميركياً عماده الآتي:
– إطلاق سراح 10 سجناء كل يوم لمدة 9 أيام هدنة.
– بحث إطلاق سراح جميع الأسرى لدى حماس، بمن فيهم الجنود، مقابل الإفراج عن السجناء الأمنيين لدى إسرائيل.
يعزو المصدر العربي التّعنّت الإسرائيليّ للضغط على الحركة لتقديم تنازلات سياسيّة في ما يخصّ الوضع السّياسيّ للقطاع في مرحلة ما بعد الحرب
جاءَ بنيامين نتانياهو إلى شمال القطاع مُتفقّداً ومُستعرضاً قوّاته. حاوَل أن يقول للرّأي العام الإسرائيليّ إنّ جيشه ضربَ حركة “حماس” في عقر دارها.
سُرعان ما أحبَطَت “حماس” هذه الصّورة. بعد ساعاتٍ خرجَ مُقاتلو “القسّام” في الشّمال من أنفاقهم وسطَ مدينة غزّة. استعرضوا أمام حشدٍ جماهيريّ من أبناء القطاع الأسرى الإسرائيليين قبل أن يُسلّموهم للصّليب الأحمر الدّوليّ في إطار صفقة “الهُدنة” مُقابل “التّبادل”.
هذا التّنافُس الإعلاميّ، وإن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على جهوزيّة الجانبيْن لمعركة آتية بعد انقضاء الهدنة. وفي الوقت عينه يدلّ على تحسين الشّروط التفاوضيّة في ظلّ حراكٍ سياسيّ عربيّ يسعى إلى الوصول إلى وقفٍ لإطلاق النّار.
مسعى مصريّ قطريّ
تعمل دولة قطر وجمهوريّة مصر بدعمٍ من اللجنة الوزارية العربيّة المُنبثقة عن قمّة الرّياض على تمديد الهدنة، ومحاولة الوصول إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النّار.
مصدر عربي واسع الاطّلاع كشف لـ”أساس” أنّ “حماس” أبلغت الجانبيْن القطريّ والمصريّ أنّها لا تُمانع أن تتسلّم السّلطة الفلسطينيّة، على الأرجح بعد إعادة تشكيلها، الأوضاع في غزّة “فوقَ الأرض”. أي أنّها ليسَت بوارد الحديث ولا مُناقشة مُستقبل جناحها العسكريّ – الأمنيّ (الموجود داخل الأنفاق تحت الأرض) مع إمكانيّة بدء البحث في ملفّ الأسرى العسكريين الإسرائيليين، في ظلّ الإصرار على “تصفير السّجون الإسرائيلية” مُقابل الإفراج عن الجنود الإسرائيليين الأسرى.
هذا ما ناقشه وفدٌ أمنيّ قطريّ وصلَ إلى تل أبيب يوم الأحد الماضي. لكنّ الجانب الإسرائيليّ لا يزال يُظهر “تعنّتاً” في إصراره على استكمال العمليّة العسكريّة “حتّى القضاء على حركة حماس”، بحسب ما سمع الوفد القطريّ.
يعزو المصدر العربي التّعنّت الإسرائيليّ للضغط على الحركة لتقديم تنازلات سياسيّة في ما يخصّ الوضع السّياسيّ للقطاع في مرحلة ما بعد الحرب.
بكلامٍ آخر، تُفضّل القيادة السّياسيّة في تل أبيب أن يكون أيّ تفاوض سياسيّ مُقبل “تحت النّار” وليسَ في أجواء الهدنة.
إسرائيل تريد الحرب
كثيرةٌ هي الأسباب التي تدفع إسرائيل إلى استئناف عمليّاتها العسكريّة ضدّ حماس بعد الهدنة:
1- لم يُحقّق الجيش الإسرائيليّ أيّ إنجازٍ نوعيّ في ضرب البنية العسكريّة للحركة بشكلٍ جدّيّ، وذلك بعد 50 يوماً من إطلاق العمليّة العسكريّة الواسعة ضدّها. وذلك على الرّغم من نعي حماس عدداً من قياديّيها العسكريين، وفي مُقدّمهم قائد لواء شمال غزّة أحمد الغندور.
2- لم يُحقّق الجيش الإسرائيليّ خطوةً كبيرةً في “ترميم” صورة الرّدع الإسرائيليّ، بعد الضّربة القاسية التي وُجِّهَت إليها في عمليّة “طوفان الأقصى”. أبرز تجلّيات هذه الصّورة استمرار إطلاق الصّواريخ الباليستيّة والطائرات المُسيّرة من اليَمنَ نحو “إيلات” في أقصى جنوب فلسطين المُحتلّة. بغضّ النّظر عن وصول الصّواريخ إلى أهدافها من عدمه.
3- لا يُريد رئيس الوزراء الإسرائيليّ أن يخسر دعم أحزاب “الحركة الصّهيونيّة الدّينيّة” التي تحفّظت على صفقة تبادل الأسرى مع حماس في اجتماعات حكومة الحرب الإسرائيليّة.
4- يُريدُ وزير الدّفاع الإسرائيليّ يوآف غالانت أن يُسجّل هو الآخر أيّ إنجازٍ ضدّ الحركة لأسباب تتعلّق بمُستقبله السّياسيّ داخل حزب “الليكود”. إذ يُعتبر غالانت، إلى جانب رئيس “الموساد” السّابق يوسي كوهين، أبرز المُرشّحين لخلافة نتانياهو برئاسة الحزب بعد انتهاء الحرب.
لذلك يُحاول وزير الدّفاع أن يرفعَ أسهمه لخلافة نتانياهو في رئاسة الوزراء، وهذا يحتاج إلى تحقيق إنجازٍ ميدانيّ في غزّة. إذ ترتفع أسهم الوزير بيني غانتس بحسب استطلاعات الرأي الإسرائيليّة.
المُنافسة بين غالانت وغانتس تعود إلى عام 2010، يوم اختاره نتانياهو لرئاسة الأركان، خلافاً لرغبة الجنرال غابي أشكينازي، قبل أن يُبطل التعيين في أعقاب اتّهامه بمصادرة أرض ملكية عامة لبناء منزله. أسفرت نتائج التحقيق عن “صعوبات قانونية كبيرة” إزاء تعيينه. ثمّ اقترح وزير الدّفاع حينها إيهود باراك تعيين بيني غانتس رئيساً للأركان بدلاً من غالانت.
يُضاف إلى كلّ ما سلف أنّ وزير الدّفاع الإسرائيليّ كانَ قائداً لفرقة غزّة التي وجّهت لها حماس ضربةً قاصمة يوم السّابع من تشرين الأوّل. وهذا سببٌ إضافيّ ليدعم غالانت استمرار العمليّات العسكريّة.
5- لا تزال الولايات المُتحدة ترفض أيّ طرحٍ لوقف إطلاق النّار. لكنّها في الوقت عينه تشترطُ عدم توسعة الحرب لتشمل الحزبَ في لبنان، على عكس رغبة القيادة العسكريّة في تل أبيب.
6- بقاء القطعات الحربيّة الأميركيّة في مياه البحر المُتوسّط بحدّ ذاته دعم أميركيّ لاستمرار المعارك ضدّ “حماس”، وخطوة في الضّغط على الحركة وإيران لتقديم تنازلات سياسيّة مؤلمة لوقف المعركة.
7- لم تُعلن إسرائيل بعد إلغاء “التعبئة العامّة” في صفوف الجيش والاحتياط. وهذا يدلّ على قرار لدى القيادة الإسرائيليّة لاستكمال العمليّات في شمال ووسط القطاع، وربّما نحو الجنوب.
تقارير واستطلاعات
صحيفة “واشنطن بوست” نشرت أنّ هناك إجماعاً تقريباً بين السياسيين والقادة العسكريين والجمهور في إسرائيل على أنّ “السّلام ليس في متناول اليد، بغضّ النظر عن المدّة التي ستستمرّ فيها هذه الهدنة”، بمعنى أنّ وقف إطلاق النار بشكل نهائيّ غير وارد في هذه اللحظة.
أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي، أنّ %94 من اليهود الإسرائيليين يؤيّدون الهدف المزدوج المتمثّل في القضاء على حماس وإنقاذ الرهائن. و85% منهم يُؤيّدون إنشاء منطقة عازلة “Buffer Zone” بين القطاع ومستوطنات الغلاف.
قال رئيس المعهد يوهانان بليسنر إنّه “في حين أنّ غالبيّة الإسرائيليين يؤيّدون تمديد الهدنة لإعادة أكبر عدد ممكن من الأسرى في غزّة، فإنّ هذا لا يعني أنّهم يريدون انتهاء الحرب. في المجتمع الإسرائيلي لم يتغيّر شيء. لا يوجد أيّ أساس في الرأي العام لأيّ شيء له علاقة بوقف إطلاق النار مع حماس أو أيّ حل دبلوماسي”.
بدورها قالت صحيفة “إيكونوميست” البريطانيّة إنّ القادة الإسرائيليين مُتردّدون في الإعلان عن نيّتهم نقل المعارك إلى جنوب القطاع بسبب الاكتظاظ السّكانيّ بعد نزوح الآلاف من سكّان الشّمال إليه.
إقرأ أيضاً: تاريخ خلافات أميركا وإسرائيل (2/2): بوش وأوباما وبايدن
رجّحت الصّحيفة أن يعتمدَ الجيش الإسرائيليّ سياسة القضم، ويبدأ العمليّة نحوَ الجنوب من مدينة خان يونس. وقالت إنّ سُكّان غزّة سيكون عليهم إمّا الاختباء في منازلهم المُكتظّة، أو الذّهاب نحو المناطق المفتوحة عند الشّاطئ. وفي كلتا الحالتيْن ستكون النّتائج “كارثيّة”.
وتوقّعت أن “يستبسل مقاتلو حماس في الدّفاع عن معاقلهم في الجنوب، وسطَ تذمّرٍ بين عديد القوّات الإسرائيليّة في الشّمال”، في وقتٍ تشهد إسرائيل “أكبر تخلّف عسكريّ في تاريخها” بنحو ألفيْ جندي من الاحتياط عن الخدمة العسكريّة، بحسب ما ذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت”.
هي معركة لم تصمت أفواه مدافعها بعد. الهدنة، وإن كان سيليها أجواءٌ نحوَ طريق الحلّ السّياسيّ، إلّا أنّه في الحروب المصيريّة تكون طريق الحلّ مُعبّدة بكثير من الدّماء. هذا إن لم تسبق السّياسة السّيف.
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@