عزّ الدين القسّام الداعية.. الإصلاحيّ.. الثائر (1/2)

مدة القراءة 7 د


قبل اغتياله بأشهر نشر الأديب المناضل الفلسطيني اليساريّ غسان كنفاني (اغتاله الموساد في بيروت عام 1972)، دراسة عن الشيخ عزّ الدين القسّام في مجلة شؤون فلسطينية، (العدد 6، كانون الثاني 1972، تحت عنوان: “ثورة 36-1939 في فلسطين: خلفيات وتفاصيل وتحليل”، ص 45-77)، ينتقد فيها كنفاني القيادات الفلسطينية التقليدية في زمن تلك الثورة بتحليل ماركسي مبنيّ على التناقض الطبقي في المجتمع، مسمّياً إيّاها بـ “شبه الإقطاعية شبه الدينية”.
لكنّه حين يتناول دور عزّ الدين القسّام في إشعال الثورة باستشهاده في معركة مفاجئة مع الإنكليز عام 1935، أي قبل الثورة بأشهر، يصفه فيقول إنّ “شخصيّته الفريدة ما تزال، وربّما ستظلّ شخصية مجهولة. وإنّ معظم الذي كُتب عنه قد مسّه من خارج وحسب. وبسبب السطحية في دراسة شخصيّته، اعتبره بعض المؤرّخين اليهود درويشاً متعصّباً. فيما أهمله كثير من المؤرّخين الغربيين. وإنّ الإخفاق في إدراك الجدلية بين الدين والنوازع النضالية في العالم المتخلّف هو المسؤول عن التقليل من أهمية الحركة القسّامية. كانت هذه الحركة نقطة انعطاف لعبت دوراً مهمّاً في تقرير شكل متقدّم من أشكال النضال، إذ إنّها وضعت الحركة الوطنية الفلسطينية التقليدية التي كانت انشقّت على نفسها وتشتّتت وتشرذمت، أمام امتحان لا يمكن الفرار منه”.
ويضيف كنفاني: “ربّما شخصية القسّام تشكّل في حدّ ذاتها نقطة التقاء رمزية لمجموعة هائلة من العوامل المتداخلة التي تشكّل بمجموعها ما صار تبسيطياً يسمّى بـ”القضية الفلسطينية”. فسوريّته تمثيل للعامل القومي العربي في المعركة، وأزهريّته تمثيل للعامل الديني – الوطني الذي كان يمثّله الأزهر في بداية القرن، ونضاليّته وقد شارك في ثورة جبل حوران السورية ضدّ الفرنسيين بين عامَي 1919 و1920 وحُكم عليه بالإعدام، هي تمثيل لوحدة النضال العربي”.
لكن ما الذي يجمع بين الشيخ عزّ الدين القسّام (1883-1935)، العراقي الأصل، السوري الولادة والنشأة، المصريّ التكوين العلمي والفكري، وبين الكتائب العسكرية التابعة لحركة حماس، التي تحمل اسمه؟

لو طالعنا سيرة القسّام من نشأته إلى استشهاده فلربّما نعثر على جوانب التشابه بين سيرته ومسيرة الحركة، ولربّما اكتشفنا سرّ العمل

هل هو الالتزام بنهجه الفكري؟ أم أسلوبه في الإعداد المعنوي والمادّي الطويل؟ أم هو في التنشئة التربوية؟ وسرّية العمل؟ والتخطيط الجيّد؟ كما الاستعداد للاستشهاد نشراً لفكر الثورة والجهاد؟ ومن دون اعتبار للعواقب ولا لموازين القوى بعد الأخذ بكلّ الأسباب الممكنة؟ أم هو مجرّد الاستلهام من سيرته والاستثمار في رمزيّته بوصفه مؤسّس أهمّ تنظيم عسكري مستقلّ في فلسطين، قبل أكثر من 90 سنة؟
لو طالعنا سيرة القسّام من نشأته إلى استشهاده فلربّما نعثر على جوانب التشابه بين سيرته ومسيرة الحركة، ولربّما اكتشفنا سرّ العمل.
فمن هو؟ ممّن تلقّى علومه؟ وكيف تكوّنت شخصيّته المتمرّدة على الواقع الاجتماعي والثائرة على الاستعمار في المنطقة؟ هل تأثّر بالفكر الإصلاحي السياسي في مصر؟ وهل تشرّب روح الثورة من رجالها ولم يكن الاحتلال البريطاني قد وطئ ترابها إلا من بضع عشرة سنة فقط ولم تنطفئ بعد جذوة الغضب؟ لماذا يحيط الغموض بشخصيته المميّزة التي لم تعرف طعم الراحة، من ساحة إلى أخرى، ومن مجال التعليم إلى ميدان القتال؟

شخصيّة استثنائية
عزّ الدين القسّام شخصية دينية وسياسية وعسكرية في الوقت نفسه، معروفة الانتماء الفكري: فهو أزهري، إمام وخطيب، إضافة إلى كونه مناضلاً سياسياً وقائداً ثورياً، ولا ينبغي الاختلاف فيه وعليه بين التيارات السياسية الفلسطينية.
لكنّ الواقع غير ذلك. فاليساريون احترموه، وقدّروا نضاله الاجتماعي واهتمامه بقضايا العمّال كأنّه من مناضلي النزعة الاشتراكية، مع أنّهم نظروا بشكل مغاير إلى رجال الدين في تلك الحقبة. فقد كان العمّال والفلاحون، عماد العصبة القسّامية، وطليعة ثورة 1936. أمّا الإسلاميون على اختلاف مشاربهم، فجعلوه رمزاً للجهاد في فلسطين، لكنّهم اختلفوا فيه، فهل هو صوفيّ كما كانت أسرته الوافدة من العراق؟ أم أضحى سلفيّاً إبّان دراسته لثماني سنوات في أزهر مصر؟ وأيّ سلفية تبنّاها؟ وهل ثمّة مؤشّرات إلى تبنّيه أفكار المدرسة الوهّابية بسبب إنكاره البدع؟
لقد كان منفتحاً على كلّ المكوّنات الدينية والاتجاهات الفكرية سواء في سوريا أو فلسطين، ما دام العدوّ هو الاستعمار، أكان فرنسياً أو بريطانياً أو استيطاناً صهيونياً. وهو ما يمكّن من اعتباره براغماتياً في مبدئيّته، صلباً في مواقفه الاجتماعية والسياسية، مرناً في تحالفاته وصِلاته، ما دام ذلك مسهّلاً أو محقّقاً للهدف.
في مواجهة الفرنسيين في سوريا بين عامَي 1919 و1920، قاتل مع علويّي الساحل. وفي فلسطين، لقيت حركته الجهادية الجنينيّة بين عامَي 1921 و1935 صدى جيداً في الأوساط اليسارية.

عزّ الدين القسّام شخصية دينية وسياسية وعسكرية في الوقت نفسه، معروفة الانتماء الفكري: فهو أزهري، إمام وخطيب، إضافة إلى كونه مناضلاً سياسياً وقائداً ثورياً

أليس هذا ما يميّز أيضاً حركة حماس؟ فليست هي حركة صوفية، وليست كذلك تيّاراً سلفيّاً. تعتمد التربية أسلوباً لتنشئة أفرادها، والشيخ أحمد ياسين (اغتالته إسرائيل عام 2004)، كان مربّياً لا شيخاً تقليدياً، استغلّ مهنة التدريس التي امتهنها بعد إنهائه الثانوية العامة، كي يعمل على تربية الفتيان الذين تعهّدهم بالرعاية الروحية والفكرية، فكانوا الجيل الجديد للمقاومة الفلسطينية، ابتداء من عام 1987، حين أعلن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

 

مرحلة التكوين
نشأ محمد عزّ الدين بن عبد القادر بن مصطفى القسّام، في بلدة جَبَلة على الساحل السوري، في أسرة صوفية تقليدية. فوالده عبدالقادر كان يعلّم القرآن والكتابة، كما يعمل في مهن مختلفة. وجدّه مصطفى جاء مع شقيقه من العراق، وهما كانا من المقدّمين في الطريقة القادرية (نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي توفّي عام 561هـ/1165م). وكان يمكن أن يكون صوفياً على نهج آبائه. فقد كان أتباع الطريقة يقصدون جبلة لزيارة ضريحَي أبيه وجدّه لمكانتهما الكبيرة. لكنّ عزّ الدين كان ينهرهم عن هذه العادة المعروفة لدى مريدي الطرق الصوفية.
تعلّم القراءة والكتابة والحساب في أحد كتاتيب جبلة. كما قرأ القرآن، وأخذ عن والده مبادئ العلوم. ثمّ كما تلقّى عن شيخين عُرفا بسعة العلم في اللغة وتفسير القرآن والحديث النبوي، وهما الشيخ سليم طيارة البيروتيّ الأصل، والشيخ حسن الأروادي. وعائلة طيارة تلتقي نسباً مع عائلتَي العجوز والعرب، كما يتبيّن من سجلّات المحكمة الشرعية ببيروت. وحين بلغ عزّ الدين الرابعة عشرة من عمره، رحل إلى الجامع الأزهر في القاهرة لإكمال علومه الدينية. وهناك تعرّف على المناخ العلمي والسياسي، وهو ما يزال في مرحلة بناء الشخصية.

إقرأ أيضاً: هل نجحت حماس بتكرار التجربة الفيتناميّة؟

كانت القاهرة في ذلك الوقت تعجّ بأفكار جمال الدين الأفغاني (توفّي عام 1897م) والشيخ محمد عبده (توفّي عام 1905م)، مع اختلاف منهجيّ بين الاثنين حول وسيلة إصلاح الأمّة. فالأفغاني رأى أنّ الطريق هو الإصلاح السياسي داعياً إلى حكم الشورى واعتماد اللامركزية، وأمّا عبده فاعتبر أنّ الإصلاح التربوي هو المنهج الأمثل للعمل. لذا هادن الاحتلال البريطاني في مصر. لكنّه ناصر ثورة أحمد عرابي (توفّي عام 1911) على الاحتلال البريطاني عام 1882، ونُفي إلى بيروت ثلاث سنوات. وصل القسّام إلى مصر عام 1896 وقد مضى على الاحتلال البريطاني 14 عاماً، فتركت المرحلة وتحدّياتها آثارها العميقة في نفسه. فلم يتخرّج من الأزهر شيخاً تقليدياً، بل مصلحاً اجتماعياً يجمع بين الاهتمام بالشأن السياسي ومقاومة الاحتلال الأجنبي في أيّ مكان، إلى جانب إلقاء الدروس على العامّة، وتثقيفهم بثقافة الجهاد، وصولاً إلى التدرّب على حمل السلاح، وتجنيد المقاتلين، لمطابقة القول بالفعل.

في الحلقة الثانية غداً: عزّ الدين القسّام: “غيفارا” بلاد الشام

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…