4 أسباب وراء تراجع ماكرون عن دعم إسرائيل

مدة القراءة 7 د


بدأت فرنسا مسيرة العودة إلى موقفها التاريخيّ المتوازن من الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، بعد الدعم غير المشروط لإسرائيل في حقّها في “الدفاع عن النفس” كما ادّعت الحكومة الإسرائيليّة: “التزام تاريخيّ تجاه إسرائيل وحقّها في العيش بسلام في المنطقة، (ودعم) التطلّعات الشرعيّة للشعب الفلسطينيّ، واستمرار العمل من أجل حلّ الدولتين”.

هذا ما قاله إيمانويل ماكرون من العاصمة السويسريّة منذ أيام. ثم اتّصل برئيس الحكومة الاسرايئليّة وأبلغه أن “عدد الضحايا المدنيين كبير جداً” في قطاع غزّة. لماذا؟

أربعة عوامل على الأقلّ وراء تعديل ماكرون موقفه من الحرب الإسرائيليّة على غزّة:

1- رسالة السفراء

“رسالة التمرّد” التي وصلته عبر وزارة الخارجيّة، وقّعها عدد من سفراء فرنسا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.وهي  سابقة في تاريخ الدبلوماسيّة الفرنسيّة الحديث. فهي ليست تمرّداً إنّما “انشقاق” واضح في الموقف، كما جاء في صحيفة “لوفيغارو”. يعترض فيها السفراء “على انحياز فرنسا لإسرائيل في موقف يناقض موقف فرنسا التاريخيّ من الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين… وهو ما يعرّض مصالحها في دول الشرق الأوسط”. ويضيف السفراء في رسالتهم أنّ “محاورينا (في الشرق الأوسط) يرون أنّنا نخون أنفسنا”، والسبب أنّ “خطابنا، المرتكز على القِيم الإنسانيّة، يتناقض مع مقاربتنا الجديدة”، وهو ما أعطى “صورة سيّئة عن فرنسا في العالم العربيّ”. فهي تُتّهم “بالتواطؤ في الإبادة” (التي تقوم بها إسرائيل في غزّة)، يقول دبلوماسيّ شابّ للفيغارو. لذلك يحذّر السفراء في رسالتهم من أزمة ثقة مع فرنسا قد تستمرّ طويلاً.

“رسالة التمرّد” التي وصلته عبر وزارة الخارجيّة، وقّعها عدد من سفراء فرنسا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.وهي  سابقة في تاريخ الدبلوماسيّة الفرنسيّة الحديث. فهي ليست تمرّداً إنّما “انشقاق” واضح في الموقف

2- الخشية من انقسام في المجتمع الفرنسيّ

في 12 تشرين الأول الماضي أطلّ إيمانويل ماكرون على الفرنسيين في خطاب من قصر الإليزيه دعاهم فيه إلى الوحدة في مواجهة ما يحدث في غزّة. ربّما فوجئ البعض حينها. بيد أنّ أسباباً عدّة دفعت بالرئيس الفرنسيّ إلى التشديد على وحدة المجتمع:

– في فرنسا جالية يهوديّة هي الكبرى في أوروبا (حوالي 450 ألفاً). وفيها أيضاً جالية عربيّة ذات غالبيّة مسلمة هي الكبرى أيضاً في أوروبا (حوالي 5.4 ملايين).

– قبل صيف 2023 كانت فرنسا قد شهدت تظاهرات تخلّلها عنف على خلفية مقتل الشابّ نائل (من أصول جزائريّة) بسلاح رجل شرطة. بعدها زاد الحديث عن العنصريّة في فرنسا والإسلاموفوبيا.

– كما شهدت البلاد منذ بداية عام 2023 العديد من التظاهرات المعترضة على قانون التقاعد التي تخلّلها أيضاً عنف واعتداء على الأملاك العامّة والخاصّة.

هل خوف الرئيس الفرنسيّ مبرّر؟

تزايد ما يُسمّى “مظاهر معادية للساميّة” يؤكّد ذلك. بحسب وزارة الداخلية فقد تخطّى عددها 1,500 منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) حتى اليوم. وهو رقم كبير لا بل قياسي خلال أيام. تنوّعت هذه المظاهر بين رسم نجمة داوود على الجدران للتدليل على منازل اليهود ومحالّهم وأماكن تجمّعاتهم، وتهديدات لفظية وجّهت ليهود، وتوجيه كلمات نابية لتلامذة يهود في المدارس… وكلّ ذلك بحسب وزارة الداخليّة. في حين لم يسجّل سوى ظاهرة عنف واحدة في ليون، حيث قام شاب بطعن امرأة يهوديّة بالسكّين.

في المقابل أطلق اليهود المؤيّدون لسياسة الحكومة الإسرائيليّة ومتضامنون معهم حملة “أنا يهوديّ”، في استفادة من حملة “أنا تشارلي” التي انطلقت منذ سنوات ردّاً على اغتيال صحافيين من مجلة “تشارلي إيبدو” الفرنسيّة التي كانت قد نشرت رسوماً مسيئة للنبيّ محمد، على يد متطرّفين إسلاميين.

يبدو أنّ لا عودة إلى الوراء وماكرون مستمرّ بسياسة التوازن التي تعتمدها الجمهوريّة الفرنسيّة منذ عقود تجاه الصراع الفلسطينيّ – الاسرائيليّ. هذا ما أكّدت عليه آن كلير لوجاندر الناطقة باسم الخارجيّة الفرنسيّة، في لقاء مع إعلاميين

3- تزايد التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيّين

على الرغم من قرار وزير الداخلية الفرنسيّ منع التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين، انطلقت في فرنسا عدّة تظاهرات من هذا النوع. آخرها تظاهرة يوم السبت 11 تشرين الثاني بدعوة من نقابات وبعض أحزاب اليسار. بغضّ النظر عن “حرب” الأرقام في عدد المشاركين، كانت تظاهرات حاشدة، خاصّة في العاصمة باريس (60 ألفاً بحسب المنظّمين و19 ألفاً بحسب الشرطة). اللافت فيها كان مشاركة فرنسيين من أصول فرنسيّة (حوالي 20% من المشاركين). هؤلاء حريصون على قِيم الجمهوريّة الفرنسيّة والقِيم الإنسانيّة التي تُنتهك بشكل فاضح وكبير في غزّة.

في اليوم التالي انطلقت مسيرات رافضة للمظاهر المعادية للساميّة دعت إليها رئيسة الجمعية الوطنيّة يائل براون ورئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه. شارك فيها العديد من السياسيين الذين تقدّمتهم رئيسة الوزراء إليزابيت بورن والرئيسان السابقان نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. وسُجّلت مشاركة زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبان للمرّة الأولى في مثل هذه المسيرات. وبالمناسبة، فقد وُجّهت انتقادات للرئيس ماكرون لعدم مشاركته. وردّ عليها من سويسرا بالقول إنّ “مكان الرئيس ليس المشاركة في مسيرة، إنّما العمل لتحرير الرهائن واستكمال العمل في هذه المرحلة لحماية وحدة البلاد…”.

4- تبدّل في الرأي العامّ الفرنسيّ

اعتادت شركات استطلاع الرأي ووسائل الإعلام المرئية والمكتوبة إجراء استطلاعات للرأي بشكل يوميّ أو أسبوعيّ في كل مرّة تشهد فرنسا أزمة سياسيّة أو اجتماعيّة أو حتى مسألة تربويّة، مثل ارتداء العباءة في المدارس. بيد أنّ استطلاعات الرأي حول الحرب الإسرائيليّة على غزّة قليلة جداً. وفي هذا دلالة كبيرة على انحياز هذه الشركات ووسائل الإعلام لإسرائيل. إذ تخشى إظهار التحوّل في الرأي العامّ الفرنسي تجاه الحرب الإسرائيليّة الوحشيّة على غزّة التي تحصد الأطفال والنساء والمسنّين، وتنتهك بشكل فاضح حقوق الإنسان، وتمنع دخول المساعدات الإنسانيّة إلى قطاع غزّة، وتترك الفلسطينيين المحاصرين يموتون جوعاً وعطشاً وبلا دواء ولا كهرباء.

في استطلاع للرأي أجرته شركة IFOP في 9 تشرين الثاني، ظهر تراجع عدد الفرنسيين المتعاطفين مع إسرائيل 12 نقطة خلال 15 يوماً، من 37% إلى 25%. وزادت نسبة الفرنسيين غير المتعاطفين مع إسرائيل نقطتين لتصبح 14%. كما تراجع عدد المتعاطفين مع السلطة الفلسطينية من 20% إلى 14%، أي بخسارة 6 نقاط خلال 15 يوماً.

اللافت في الإحصاء تراجع نسبة غير المتعاطفين مع حركة حماس بنسبة 6 نقاط أيضاً لتصبح 55% من الفرنسيين بدل 61% ظهرت في استطلاع سابق.

في ما يتعلّق بهدف إسرائيل القضاء على حماس، تراجع عدد الفرنسيين الذين يرون فيه هدفاً مبرّراً 7 نقاط، لتصبح النسبة 58%.

كان استطلاع للرأي أجرته الشركة نفسها في 30 تشرين الأول أظهر أنّ 37% من الفرنسيين فقط يتعاطفون مع الدولة الإسرائيليّة، بينما 82% منهم يتعاطفون مع الشعب الإسرائيليّ (27% كثيراً، و55% يتعاطفون قليلاً معه).

إقرأ أيضاً: غزّة تهزّ فرنسا: تمرّد دبلوماسي وقضائي على ماكرون

كما أظهر الاستطلاع أنّ غالبية الفرنسيين (82%) يخشون تداعيات هذه الحرب على فرنسا.

يبدو أنّ لا عودة إلى الوراء وماكرون مستمرّ بسياسة التوازن التي تعتمدها الجمهوريّة الفرنسيّة منذ عقود تجاه الصراع الفلسطينيّ – الاسرائيليّ. هذا ما أكّدت عليه آن كلير لوجاندر الناطقة باسم الخارجيّة الفرنسيّة، في لقاء مع إعلاميين. ولكنّها أضافت: “فرنسا جاك شيراك لم تعد موجودة”.

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…