تحيّة لفرح وربيع: إسرائيل والإعلام… الرحم والقبر

2023-11-23

تحيّة لفرح وربيع: إسرائيل والإعلام… الرحم والقبر


وحدها إسرائيل من بين دول العالم تعلم بالتجربة والحدس، أهمية الإعلام. هي صنيعته. هو صانعها. كلاهما يعرف الآخر من كثبٍ. دولة “الوطن القومي الآمن لليهود” وليدة مزاعم، والزعم في لغتنا قرين الكذب، لذا أدركت أهمية الإعلام مبكراً. استعملته حتى الثمالة لبناء دولة على أنقاض وطن فلسطيني متعدّد الهويّة: غاية اليهودية، وموطن المسيحية، وأولى قبلتَي المسلمين، وقلب العرب والعروبة.

“كان اسمها فلسطين”، وسيبقى اسمها فلسطين. على دربها قضت آلافٌ مؤلّفة. في الإعلام، إسرائيل هي الأذكى. تعرف كيف تُخفى الحقائق، وتُضلَّل الجماهير، وتُطمَس معالم جرائمها. قبل أيام، سقط زميلان من قناة “الميادين”، كانا يحاولان كشف حقيقة العنف الإسرائيلي المجنون. قبلهما سقط الزميل عصام عبد الله من وكالة “رويترز”. وبين الجريمتين المقصودتين كاد يسقط زملاء كثر وهم يواكبون حرباً فعليّةً قائمةً في الجنوب. بالموازاة مع هذه المقاتِل، سقط أكثر من ستّين إعلامياً وصحافياً ومراسلاً شهداء في غزّة. إسرائيل عدوّة الحقيقة والحقائق، قبل أن تكون عدوّة العرب وأبناء هذه المنطقة.

وحدها إسرائيل من بين دول العالم تعلم بالتجربة والحدس، أهمية الإعلام. هي صنيعته. هو صانعها. كلاهما يعرف الآخر من كثبٍ

هي قاتلة. هذا ليس جديداً على سرديّتها الأصلية. لقد قتلت الإعلام الذي استخدمته وبات يصحو ولو متأخّراً في هذا الشرق المُتخلّف. بيننا من يتوهّم أنّه يخاطب اليهود. هو يحاكي الصهيونية. هي تقتل الآن مَن صنعها. صارت وصار فرانكشتاين. كلٌّ يتمرّد على صانعه.

هستيريا إسرائيل

الهستيريا الإسرائيلية هي من طبيعة إسرائيل ذاتها. العدوّ هو العدوّ عندها. لا فرق بين من يحمل قلماً أو يحمل بندقيةً أو تُرضع طفلاً وليداً. لا فرق بين بيت آهلٍ بالسكّان، ومستشفى يعجّ بالمرضى، وبستان ينضح بالأشجار.

أفهم الهستيريا الإسرائيلية بعد هذا التاريخ الطويل من الصراع، لكن لا أفهم سكوت العالم عنها وعليها. هذا العالم الليبرالي بلا أخلاق، في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع أو الثقافة.

الرديء في الليبرالية، في منطقتنا، بوصفها الأكثر حذاقةً، أنّها لم تبحث عن يسارٍ لم يقطع مع هذر “العنف الثوري”. جلّ ما فعلته أنّها رمت العنف هذا في أحضان حركات التحرّر التي لا يمكن لها أن لا تتأثّر بالإسلام، فهي أوّلاً وأخيراً وليدة نبض الشارع والناس، والناس على دين آبائهم، مسلمون بغالبيتهم الغالبة. في كلّ هويّة أو حركة ثورية أو سياسية أو حركة تحرير وتحرّر، في منطقتنا هذه، أشياء من الإسلام. فالإسلام في أصله ثورة. ثورة على قيم كانت سائدةً، ثورة في تاريخ الإنسان والأديان.

فصل نبض الشعوب عن الشعوب، جريمة لا تقلّ خطورةً وهمجيّةً عن جريمة اختزال الشعوب في حركة أو حزب. حركات التحرّر وليدة المأساة والظلم أوّلاً وأخيراً، إسلاميةً كانت أو ليبراليةً أو لا تعترف بدين أو بربّ.

أوّل الحقيقة يبدأ من هنا. إسرائيل لا تريد الحقيقة ولا الحقائق لا في أوّلها ولا في مآلاتها. قتل الإعلاميين اغتيال للحقيقة، وللقيم الإنسانية والمجتمعية المتعارفة، والتي ما وصلنا إليها إلا بعد آلاف السنوات على سطح هذا الكوكب، وإلا بعد مئات الحروب التي أزهقت أرواح الملايين بل المليارات.

من يحجب الحقيقة، كمن يحاول حجب الشمس. من يحجب الحقيقة، يقضي على الحياة، وهذا ما تفعله إسرائيل.

الهستيريا الإسرائيلية هي من طبيعة إسرائيل ذاتها. العدوّ هو العدوّ عندها. لا فرق بين من يحمل قلماً أو يحمل بندقيةً أو تُرضع طفلاً وليداً. لا فرق بين بيت آهلٍ بالسكّان، ومستشفى يعجّ بالمرضى، وبستان ينضح بالأشجار

عنفٌ مُستطير

بعد مقتلة حلّت بزميلين من قناة “الميادين”، يا ذُلّ عارنا المجبول دماً وقهراً إذ نقف مكبّلين في عصر الذكاء الصناعي. يا قهرنا المُلطّخ بصمتٍ قَبّحتهُ مُعاينة عقولنا برواتب لها ألوان متنوّعة. كنّا قبائل، وسنبقى قبائل. موت الصحافيين جنوباً وفي غزة يلقي بأصعب الأسئلة: كيف الربط بين العقل وأدوات المعرفة؟ قتْلهم عن عمد في جنوب لبنان وفي فلسطين المحتلّة، خريف لعمرٍ انتهى ومضى يبحث عن نهايات لا نهايات لها.

سلامٌ على ستّين منارةً قتلتهم إسرائيل. سلامٌ لهم وعليهم نحن زَعمة أبناء الحياة. سلامٌ على “الميادين” و”العربية” و”الحدث” و”المنار” و”الجديد”. سلام على جويس عقيقي تقاتل من أجل ضوء الحقيقة وهي ابنة هذه الأرض. سلامٌ على ندى أندراوس تحتمي بخوذتها وهي تقاتل مع المؤسسة اللبنانية للإرسال دفاعاً عن لبنان “وقف الربّ”.

سلام على وائل الدحدوح ينهض بعد دفن أسرته وموتاه ويعود إلى حيث يجب أن يكون دفاعاً عن الحقّ والحقيقة: أمام الكاميرا. ينهض مودّعاً مياهه ودماءه ليدافع بالصوت والصورة عمّن تبقى فينا من دماء ومياه. وطوبى للسيدة التي ابتسمت لدمها الحُرّ. لبكائها الحُرّ إذ تنعى بناتها الثلاث وأمّها.

أين نحن من هذا النبل؟

سلامٌ على تقاطعين للحقّ مع شرف المهنة: شهيدَي قناة “الميادين”. المصارع أقسى من الموت. لقد قضى كثرٌ على مصارع الحياة: لقمان سليم، جورج حاوي، سمير قصير، ربيع بيروت – دمشق. كلّهم أيتام طوائف. كلّهم كانوا انكساراتنا ولم يلقوا تحيّةً أخيرةً.

إقرأ أيضاً: الحقيقة التاريخيّة: القتل الوحشيّ لا يحمي إسرائيل

الشهداء هم أولئك الذين يمضون من أجل قضاياهم. هم يشهدون لدينهم وعلى دُنياهم. شهداء الإعلام ضحايا نبلٍ أين نحن منه. المصارع هي نهايات مؤلمة لم يخترها القتلى على المذابح. هذه هي حال الصحافيين الذين قضوا نحبهم انتصاراً للوضوح.

إسرائيل والإعلام هما الرحم والقبر.

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…