يتشابه هجوم حماس في 7 تشرين الأول على غلاف غزّة، من حيث جرأة الأهداف، وسرّية التخطيط،، وتوقيت الهجوم، مع الهجوم الفيتنامي المشهور، باسم هجوم رأس السنة القمريّة Tet Offensive)) عام 1968 في سياق الصراع الطويل آنذاك بين فيتنام الجنوبية المحميّة أميركياً بشكل أساسي، إضافة إلى حلفائها التقليديين، وفيتنام الشمالية المدعومة من الصين والاتحاد السوفيتي، والمعسكر الشيوعي عموماً. ومع أنّ الهجوم الفيتنامي الشمالي، الذي استعمل مدينة الأنفاق قرب سايغون عاصمة الجنوب، كممرّات هجومية متقدّمة لاجتياح العاصمة الجنوبية، كاد أن يُسقط العدوّ بالضربة القاضية، ومعه الهيبة الأميركية، فقد تمكّن الجيش الفيتنامي الجنوبي بمساعدة قويّة من القوات الأميركية من سحق الهجوم الشمالي، إلا أنّ المؤرّخين العسكريين الأميركيين يعتبرون هجوم الشمال إشارة إنذار مبكر إلى بداية النهاية للتدخّل العسكري الأميركي المباشر. فالولايات المتحدة وربيبتها فيتنام الجنوبية حقّقتا انتصاراً عسكرياً تكتيكياً، لكنّ فيتنام الشمالية أنجزت انتصاراً استراتيجياً سياسياً ومعنوياً، على الرغم من خسارتها التكتيكية لتلك المعركة.
من أجل إيضاح الدروس المستخلصة من ذاك الهجوم وتداعياته السياسية، ومقارنته بهجوم حماس الناجح إلى حدّ الكارثة بحسب تعبير الباحثة اللبنانية نيلي لحّود، الباحثة في مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت West Point، لا بدّ أوّلاً من سرد العناصر الأساسية للهجوم الفيتنامي في عطلة رأس السنة القمرية، ثمّ استنتاج معالم النجاح الاستراتيجي لهجوم حماس، الذي يتحوّل عملياً إلى هزيمة تكتيكية وكارثة إنسانية، بسبب الطبيعة المختلفة للصراع في فلسطين المحتلّة، إذ هو هنا بين قوة استيطانية وحركة تحرّر، فهو إذاً صراع ديمغرافي جغرافي بين أمّتين مختلفتين، لا صراع عسكري وسياسي بين نظامين متناقضين وحسب، كما كان الحال في فيتنام.
يمكن تلمّس النجاحات الاستراتيجية لحركة حماس وللمقاومة الفلسطينية عموماً، من آثار العملية الأولى في غلاف غزّة، التي أطلقت الجنون الإسرائيلي الأميركي من دون قيود ولا شروط
مباغتة رأس السنة القمريّة
بعد ما يقارب عشر سنوات على التدخّل العسكري الأميركي في فيتنام الجنوبية، في محاولة صدّ المدّ الشيوعي في جنوب شرق آسيا، وبعد الجمود العسكري، والاستنزاف الاقتصادي لفيتنام الشمالية، جرّاء القصف الأميركي الاستراتيجي المتواصل، قرّر الشيوعيون في هانوي خوض مغامرة عسكرية هي الأولى من نوعها، انتقالاً من حرب العصابات، إلى القتال النظامي، لزعزعة فيتنام الجنوبية، ودفع السكّان إلى الثورة على نظام سايغون. وفي الساعات الأولى، من 31 كانون الثاني عام 1968، في يوم عطلة رأس السنة القمرية، وهي مناسبة مهمّة في البلاد، شنّ الجيش الشمالي هجوماً متزامناً ومنسّقاً، بقوّة تعدادها 85 ألف جندي، بالتوازي مع تحرّك قوات الفيتكونغ Viet Kong، وهي قوات غير نظامية، تخوض حرب عصابات في الجنوب، ولديها مدينة أنفاق على بعد عشرات الكيلومترات، من سايغون. انطلق الهجوم باتجاه خمس مدن رئيسية، وعشرات المنشآت العسكرية وعدد من البلدات والقرى. وتميّز الهجوم بما يلي:
1- التخطيط الطويل: في تموز عام 1967، قرّر قادة فيتنام الشمالية، إطلاق هجوم مفاجئ على الجنوب، لتحريك المياه الراكدة في أقلّ تقدير، وإسقاط فيتنام الجنوبية، بهجوم نظامي وثورة من الداخل، في أحسن تقدير.
2- السرّيّة: على الرغم من رصد الاستخبارات الأميركية مبكراً لتحضيرات عسكرية شمالية، ولا سيما أنّ الفيتكونغ في الجنوب كانوا يحرّضون سكّان الجنوب على الثورة، إلا أنّها لم تتوقّع إقدام القوات الفيتنامية الشمالية على هذه العملية الجريئة، في وقت تتفوّق فيه الولايات المتحدة بالقوّة الجوّية الكاسحة.
3- التوقيت: شنّ الفيتناميون الشماليون هجومهم المباغت في عيد رأس السنة القمرية، وهو يوم عطلة رسمية، وثمّة استرخاء عسكري. وهو ما سمح للمهاجمين باختراق العاصمة سايغون نفسها، والسيطرة على أجزاء منها، ودخلوا القصر الرئاسي ومجمّع السفارة الأميركية، وتحصّنوا في العاصمة القديمة لفيتنام، هيو Hue، حيث ستُخاض أشرس المعارك، قبل أن يندحروا منها.
4- النتيجة: كانت الخسارة الشمالية الكبرى في الحرب، مع خسارة عشرات آلاف القتلى. لكنّ التداعيات في الجانب المنتصر كانت الأخطر استراتيجياً. فالرأي العامّ الأميركي، المعارض أصلاً، للتورّط في فيتنام، تأثّر بعزيمة الفيتناميين الشماليين، وجرأتهم التخطيطية والقتالية، فسقطت الدعاية الرسمية التي كانت تروّج أنّ الولايات المتحدة على طريق النصر. ومع استدعاء الجيش الأميركي مزيداً من الجنود، تضاعفت الحملة المناهضة للحرب. وبدأت الولايات المتحدة بالانسحاب تدريجياً، إلى حين السقوط المروّع لسايغون عام 1975، ودخول الجيش الفيتنامي مظفّراً.
قد يقال إنّ الحرب الدائرة تعيد تعويم الحلّ السياسي، وما يسمّى حلّ الدولتين، الذي ينتظر تنفيذه منذ توقيع اتفاقية أوسلو قبل ثلاثين عاماً
ماذا أنجز هجوم حماس؟
بالمقارنة، مع هجوم حماس في 7 تشرين الأول الماضي، فإنّ دوافع الهجوم هي نفسها، وقد تكون الأهداف هي ذاتها، والنتائج مشابهة تقريباً. فالنجاح الأوّليّ الكاسح، لا يمكن ترجمته إلى نصر عسكري استراتيجي، كما تدلّ عليه، معالم الهجوم البرّي الإسرائيلي على القطاع، منذ بداية الشهر الحالي. حتى إنّ شبكة الأنفاق التي ساعدت في التخطيط والتحضير واللجوء والتخزين والتمويه والتعمية، ليس لها دور كبير في تغيير موازين المعركة ولا في رسم نتائجها المنتظرة، وذلك بسبب طبيعة الهجوم الإسرائيلي، الذي يتجنّب مقارعة الأنفاق، أو قتال تحت الأرض، ويلجأ إلى الحرب اللامتناظرة أو اللامتماثلة Asymmetric War، لنقل المعركة إلى مستوى مختلف، وقد يكون مباغتاً لقوات المقاومة الفلسطينية، حماس والفصائل الأخرى. وترتكز هذه العملية على أهداف مختلفة تماماً عن المعارك السابقة التي خاضها الجيش الإسرائيلي مع مقاومة غزّة. فهو لا يهدف أساساً إلى تدمير البنية التحتية حرفيّاً لحركة حماس والجهاد الإسلامي، بمعنى شبكة الدفاعات تحت الأرض، بل يتجاوز ذلك إلى تدمير البنية التحتية والحيوية لسكّان غزة، المؤلّفة من كلّ المرافق والمؤسّسات والموارد التي هي ضرورية لبقاء الغزّيّين على أرض القطاع، والغاية النهائية هي تهجير السكّان أو أكثرهم إلى خارج القطاع، لإبعاد الخطر بشكل نهائي عن مستوطنات غلاف غزّة، وعن المدن الإسرائيلية عامّة. وبالنسبة للأهداف التكتيكية للهجوم المدرّع، فهو تدمير المستشفيات أو إخراجها من الخدمة، بذريعة البحث عن الأسرى المدنيين والعسكريين، وهم يحتلّون أسفل قائمة الأولويّات. تتموضع الدبّابات بعيداً عن منافذ الأنفاق المفترضة، وتتحصّن في المناطق التي يمكن اعتبارها الأكثر أمناً لها من هجمات المقاتلين الأشباح، على حدّ الوصف الإسرائيلي لهم.
لكن بالمقابل، يمكن تلمّس النجاحات الاستراتيجية لحركة حماس وللمقاومة الفلسطينية عموماً، من آثار العملية الأولى في غلاف غزّة، التي أطلقت الجنون الإسرائيلي الأميركي من دون قيود ولا شروط. ويظهر ذلك من تنامي التعاطف العالمي مع قضية فلسطين بشكل غير مسبوق، بالمقارنة مع الانحسار المريع لسمعة إسرائيل، وللتأييد التقليدي لها، في دول الغرب، وفي الولايات المتحدة وبريطانيا، على نحوٍ خاصّ، بسبب طبيعة الحرب المتوحّشة والانتقامية التي تقوم بها حكومة هي الأسوأ في تاريخ إسرائيل، والتي تضع المستشفيات على رأس أهدافها، في زمن لا يمكن فيه إخفاء أيّ شيء، زمن ثورة الاتصالات، ولا سيما ما تتولّاه وسائل التواصل الاجتماعي، بما يهمّش إلى درجة كبيرة دور الإعلام التقليدي، ويُخبي وهجه وأثره، بدليل انهيار الدعاية الإسرائيلية بأسرع ما كان متوقّعاً.
إقرأ أيضاً: نتانياهو يقاتل “حلّ الدولتين” لا “حماس” فقط
ماذا يعني هذا سياسيّاً؟
قد يقال إنّ الحرب الدائرة تعيد تعويم الحلّ السياسي، وما يسمّى حلّ الدولتين، الذي ينتظر تنفيذه منذ توقيع اتفاقية أوسلو قبل ثلاثين عاماً، مع العلم أنّ النكبة الأولى عام 1948، جاءت فور قرار مجلس الأمن عام 1947 بتقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين، وأنّه بناء على مجريات الحرب، والقتل المتبادل بين حماس وإسرائيل، مع عدم التكافؤ إطلاقاً، بين خسائر الجانبين، ستنبثق تباشير السلام أخيراً، وتنشأ دولتان متجاورتان جنباً إلى جنب، بكلّ معاني الوئام. في واقع الأمر، لم يخُض نتانياهو هذه التجربة المريرة، بكلّ ما تتضمّنه من فظائع ومجازر على مرأى العالم، وبغطاء مطلق من واشنطن وعواصم الغرب، من أجل التسليم أخيراً بما رفضه منذ ثلاثين سنة. بل إنّ الصراع لن يتوقّف، حتى لو توقّفت الحرب في أقلّ من نصف القطاع، فيما الباقي ساحة خرائب تحتاج إلى سنوات طويلة من التعمير والتأهيل مجدّداً، لو سمحت إسرائيل بذلك أصلاً. ليس السؤال المطروح: هل تبقى حكومة حماس أو هل تنتهي القضية الفلسطينية لتصبح حصراً كما أراد الإسرائيليون دائماً قضية لاجئين وحسب؟ بل كيف سيكون وجه الصراع في المرحلة ما بعد اليوم التالي؟ كيف ستكون طبيعة “حماس” الجديدة، وشكل تحالفاتها، ونوع رهاناتها؟ هل تظهر مقاومة جديدة وما هي خياراتها بعد تغيّر المشهد بالقوّة، وبما أفرزه هجوم 7 تشرين الأول، الذي سيغيّر العالم كما سيغيّر حماس نفسها؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@