يبدو واضحاً من خلال تصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وهو في طريق العودة من قمّة الرياض أنّه اختار النظر إلى الجانب الممتلىء من كوب المياه وهو يتحدّث عن البيان الختامي، ليس لأنّ أنقرة ستوجد ضمن مجموعة الاتصال السباعية التي كلّفتها القمّة بالتواصل مع بقيّة الأطراف الإقليمية والدولية لمتابعة خطط تنفيذ البيان الختامي، أو لأنّها نجحت في إقناع الحضور بإدراج الكثير من الموادّ التي اقترحتها كما قال، بل لأنّ مضمون البيان يختلف هذه المرّة عن المرّات السابقة لناحية وضع خارطة طريق باتجاه تنفيذ القرارات المتّخذة بعيداً عن المثل الشعبي الإيراني الذي يقول: “جلسوا وتحدّثوا ثمّ انفضّوا”.
إردوغان والـ “مان تو مان”
تلتقي إلى حدّ كبير حصيلة تصريحات إردوغان وهو يقوِّم نتائج أعمال قمّة الرياض ومضمون البيان الختامي الصادر عنها، والاستعدادات لإطلاق استراتيجية تحرُّك إسلامي عربي في ملفّ غزّة والقضية الفلسطينية ككلّ، مع خطّة “مان تو مان” أو “مركاج” رجل لرجل المعروفة في لعبة كرة السلّة والتي هي بين هواياته الرياضية المفضّلة.
الهدف هو تقاسم الأدوار وتوزيع المهامّ لزيادة الضغوطات على واشنطن والعواصم الغربية المؤيّدة لتل أبيب عبر جهود فردية مكثّفة، واستخدام الأوراق السياسية والدبلوماسية المؤثّرة، لدفعها نحو تضييق الخناق على إسرائيل في غزّة وفي الملفّ الفلسطيني.
قناعة إردوغان هي أنّ قمّة الرياض خيّبت آمال المراهنين على اجتماع روتيني ينتهي بموقف كلاسيكي يتكرّر في حالات مشابهة حيال العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، وضرورة التصدّي له تحت سقف العاصمة السعودية هذه المرّة وبعد قمّة عمّان ومؤتمر القاهرة وجلسة الجمعية العامّة للأمم المتحدة. وتتّجه الأنظار نحو بكين وما يمكن أن تقدّمه من خلال مؤتمر دولي يدعم مطلب تسريع التسوية السياسية العادلة في ملفّ القضية الفلسطينية المزمن.
من الواضح جدّاً أنّ ما جرى في الرياض أغضب نتانياهو الذي لم يعد يملك ما يقوله سياسياً سوى عليكم التزام الصمت فقط
الإشادة بالبيان الختامي لقمّة الرياض وما تضمّنه من 31 مادّة، والتوقّف عند جهود الرئيس المصري “التي تستحقّ التقدير”، يتعارضان مع ما يردّده البعض عن نتائج ما جرى في العاصمة السعودية قبل أيام. فما الذي رآه الرئيس التركي ودفعه إلى طرح مواقف فيها الكثير من الإيجابية والتفاؤل؟
خطّة متعدّدة الأهداف والجوانب يوجد فيها الشقّ السياسي والقانوني والأمني والاقتصادي ومبنيّة على “إدانة العدوان والمجازر التي ترتكبها حكومة الاحتلال الاستعماري والدعوة إلى وقف تصدير السلاح لإسرائيل” واحتمال الدعوة إلى اجتماع جديد للجمعية العامة للأمم المتحدة بعد إقناع 55 دولة محايدة ومعارضة بتبديل مواقفها حيال ما تفعله إسرائيل في غزّة.
قمّة الرياض وغضب نتانياهو
توقّف إردوغان عند التحوّل الكبير في مواقف وسياسات الكثير من الدول العربية والإسلامية وتجاوز بيانات التنديد والشجب الكلاسيكية المعروفة إلى طرح خارطة طريق سياسية وأمنيّة تنهي الأزمة المزمنة وتتقدّمها هدنة دائمة تسهّل وصول المساعدات وترفع الحصار عن غزّة وتشكّل فرصة سياسية وقانونية جديدة لبلورة رؤية إقليمية ودولية بغطاء أممي يحمل الحلّ النهائي للأزمة.
من الواضح جدّاً أنّ ما جرى في الرياض أغضب نتانياهو الذي لم يعد يملك ما يقوله سياسياً سوى “عليكم التزام الصمت فقط”، وأنّ كلّ ما يستطيع فعله بعد الآن هو لعب ورقة “المدينين” الغربيين للإسرائيليين في الحرب العالمية الثانية. يقول إردوغان: “لسنا على هذه القائمة ولن نقبل أن نكون نحن من يدفع الثمن”.
لا تريد قيادة “العدالة والتنمية” التراجع عن خطوط التواصل مع تل أبيب دبلوماسياً واستخبارياً واقتصادياً، لكنّها تدعم خيار أنّ “نتانياهو لم يعد شخصاً يمكننا التحدّث معه بأيّ شكل من الأشكال. لقد محوناه وألقيناه جانباً”، كما قال الرئيس التركي.
ترفض أنقرة اقتراح الضمانات الذي يقتصر على وقف إطلاق النار. فما يدور في غزّة قد يتحوّل إلى فرصة إقليمية ودولية لبناء مرحلة ما بعد الحرب هناك وطرح خطة تفاهمات سياسية جديدة تسرّع حلّ القضية الفلسطينية وإخراج المنطقة من المستنقع الإقليمي الذي أقحمها فيه نتانياهو.
من أين يستمدّ إردوغان قوته؟
من أين يستمدّ إردوغان قوّته وهو يقول لنتانياهو “راحل أنت راحل. أيام صعبة بانتظارك”؟ هل تذهب أنقرة إلى رفع مستوى التصعيد السياسي والدبلوماسي ضدّ تل أبيب أكثر فأكثر؟ وهل تعوّل في ذلك على الداخل السياسي والحزبي والعسكري الإسرائيلي أم على تغيير حلفاء وشركاء تل أبيب في الغرب مواقفهم حيال ما يجري في القطاع؟
تنسّق أنقرة اليوم مع أكثر من لاعب عربي وإسلامي في الملف بهدف تضييق الخناق على نتانياهو وإلزامه بقرار وقف إطلاق النار، وتسهيل الدخول الدائم للمساعدات إلى القطاع، والانتقال بالملفّ إلى مرحلة سياسية جديدة باتجاه الحلّ العادل لصراع مزمن.
ما يقوله إردوغان يتوافق تماماً مع ما سمعناه على لسان العديد من القيادات المشاركة في قمّة الرياض الذي أوجزه المستشار جمال رشدي، المتحدّث باسم الأمين العام للجامعة، بقوله إنّ القرارات الصادرة عن القمّة تعدّ بمنزلة توجيه خطّة عمل تقوم الأمانة العامة في الجامعة العربية ومنظمة العمل الإسلامي بوضعها موضع التنفيذ الفوري.
يعوّل إردوغان أيضاً على التحوّل الحاصل في مواقف الرأي العام العالمي والتظاهرات الحاشدة في العواصم الغربية قبل العربية والإسلامية المطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي على غزّة، وعلى الدعوة العربية الإسلامية المشتركة للدول الفاعلة في الملفّ الفلسطيني وفي مقدّمها أميركا إلى مراجعة سياساتها حيال القضية الفلسطينية والضغط على إسرائيل لتوقف عدوانها على غزّة والشعب الفلسطيني.
إقرأ أيضاً: لماذا بدّل إردوغان موقفه في غزّة؟
بين الأهداف أيضاً تذكير المجتمع الدولي والعواصم الغربية الداعمة لتل أبيب بتهديدات اللجوء إلى استخدام السلاح النووي حيث “يختبرون صبرنا” من خلال التلويح باستخدام هذه الأسلحة، ووجوب “التحقّق من السلاح النووي الذي أقرّ الوزراء الإسرائيليون أيضاً بوجوده، والكشف عمّا إذا تمّ تهريب البعض منه عن الرقابة الدولية”، والدعوة الأممية إلى وقف تصدير الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل في قتل الشعب الفلسطيني والحؤول دون تفاقم الوضع الميداني والإنساني وتطويق انفجار إقليمي قابل للوقوع في كلّ لحظة، وإقناع 14 دولة عارضت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر الشهر المنصرم ودفع 45 دولة امتنعت عن التصويت لتغيير مواقفها باتجاه الضغط دولياً على إسرائيل لإلزامها بخطوات وقف إطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات إلى غزّة وفتح الطريق أمام التسويات السياسية، ولعب ورقة المحكمة الجنائية الدولية بعد تحرّك النائب العام للمحكمة باتجاه تفعيل تحقيق فوري في جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Profsamirsalha@