ماذا بعد الحرب الإسرائيلية التدميرية على قطاع غزّة؟
لا توجد حرب استمرّت إلى ما لا نهاية. الحرب الإسرائيلية على غزّة لا بدّ أن تتوقّف. ليس المهمّ متى. المهمّ ماذا بعد؟
يخرج بنيامين نتانياهو من الحرب خاسراً في السياسة، ورابحاً في القتل. ربح في الحرب التدميرية على جبهة “حماس”، وخسر في الحرب الإنسانية على كلّ الجبهات. حوّل سمعة اليهودي في العالم من مظلوم إلى ظالم. ومن ضحية إلى قاتل. حتى إنّ الحوادث ضدّ السامية في الولايات المتحدة وحدها ارتفعت 400 في المئة. وربّما أهمّ جبهة خسر فيها هي جبهة التوظيف اللامتناهي لعقدة اللاسامية التي أنعشتها جرائم هتلر في معسكرات التصفية. فالتظاهرات التي عمّت العالم مندّدة بالجرائم الإسرائيلية في غزّة، عبّرت عن تحرّر هذه المجتمعات من تلك العقدة. بل وربّما استولدت عقدة كراهية من نوع جديد ضدّ الإسرائيلي القاتل عشوائياً الذي لا يرحم بريئاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا يحترم مستشفى أو بيت عبادة.
تحويل الانتقام إلى انتصار
عدد الضحايا من الفلسطينيين كبير جدّاً. وفي الحسابات الإسرائيلية يعني ذلك إنجازاً انتقامياً كبيراً. ولتحويل الانتقام إلى انتصار، أعلن نتانياهو مخطّطه لإعادة احتلال غزّة المحاصرة والمهجّر أهلها إلى أجل غير محدّد. هذا الإعلان يجسّد “انتصار” نتانياهو على حماس، لكنّ ذلك لا يعبّر عن واقع إجماع الرأي العامّ الإسرائيلي على تحميله مسؤولية الهجوم الساحق الذي شنّته حماس على المستعمرات اليهودية المتاخمة لحدود غزّة، ومسؤولية شقّ مؤسّسات الدولة وتقسيم المجتمع اليهودي وتشتيت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على خلفيّة التغييرات القضائية التي حاول أن يفرضها.
بعد توقّف الحرب في غزّة سوف تحاسب إسرائيل رئيس وزرائها الذي فتحت سياسته المتطرّفة أبواب الحرب، والذي أدّت أخلاقياته المشينة (اتّهام بالتزوير والرشى المالية مقابل إجراءات إدارية وسياسية ومصالح..) إلى انقسام المجتمع الإسرائيلي على نفسه وتوصيل غلاة المتطرّفين إلى سلطة اتّخاذ القرارات.
ومن هذه القرارات توسيع الاستيطان في الضفة الغربية المحتلّة، وتمويل وتسليح المستوطنين ومنحهم سلطات القتل دون حساب.
يخرج نتانياهو من الحرب خاسراً في السياسة، ورابحاً في القتل. ربح في الحرب التدميرية على جبهة “حماس”، وخسر في الحرب الإنسانية على كلّ الجبهات
وقف الرئيس الأميركي جو بايدن إلى جانب نتانياهو أثناء الحرب. ولكنّ نتانياهو لن يقف إلى جانب بايدن بعد الحرب. فالرئيس الأميركي (الذي قدّم لإسرائيل ما لم يقدّمه من قبل أيّ رئيس أميركي آخر، سواء من خلال الدعم العسكري اللامحدود أو الغطاء السياسي والمعنوي غير المسبوق أو المساعدات المالية المفتوحة) يأمل استعادة العالم العربي من خلال مشروع لتسوية القضية الفلسطينية.
يسترضي مشروع بايدن إسرائيل باستبعاد حماس. ويسترضي الدول العربية بمغازلة السلطة الفلسطينية، وذلك على أساس وقف عمليات الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية واعتماد حلّ الدولتين في ما بقي من الضفّة وغزّة.
قد يسترضي بايدن الدول العربية بما في ذلك السلطة الفلسطينية بهذا المشروع، إلا أنّه لن يلقى تجاوباً من الفريق المتطرّف في السلطة الإسرائيلية بمن فيهم نتانياهو نفسه. ففي الوقت الذي تقوم فيه مبادرة الرئيس بايدن على قاعدة “الانسحاب” الإسرائيلي من الضفة والقطاع، يؤكّد نتانياهو التمسّك بقاعدة توسيع المستعمرات في الضفة واحتلال القطاع إلى أجل غير مسمّى.
مصير نتانياهو المحتّم
هل يؤدّي ذلك إلى عودة الصدام بين بايدن ونتانياهو الذي كان قائماً قبل عملية حماس؟
لا شكّ أنّ الرئيس الأميركي أدرك مدى الخسارة المعنوية التي لحقت بسمعته بسبب وقوفه السياسي والعسكري والمالي والاقتصادي والإعلامي إلى جانب حرب نتانياهو على غزّة بما اتّسمت به من وحشية إباديّة. ولا شكّ أنّه يدرك أنّ مسؤوليته الآن هي في استرضاء العالم العربي والإسلامي وفق حدّ أدنى هو حلّ الدولتين. ولا شكّ أنّه يدرك كذلك أنّ قيامه بهذه المسؤولية يقطع الطريق أمام التمدّد الصيني والروسي إلى المنطقة، وأنّ ذلك يقع في صميم المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة. إلا أنّ المصالح الاستراتيجية العليا لنتانياهو تدفع بالمواقف باتجاه عكسي: مزيد من الاحتلال والتطهير العرقي.
كيف سيتعامل بايدن مع نتانياهو في مرحلة ما بعد توقّف الحرب في غزّة؟ تتوقّف الإجابة على هذا السؤال على ردّ فعل المجتمع الإسرائيلي بعد الحرب. فالإسرائيليون لم يغفروا لنتانياهو مواقفه التي قسّمت هذا المجتمع قبل الحرب، بما في ذلك مؤسسة الاستخبارات ومؤسسة الجيش. ولن يغفروا له مسؤوليته عن تمكين عناصر حماس بإمكاناتهم البدائية من اجتياز خطوط الدفاع الإسرائيلية المحصّنة إلكترونياً وبشرياً وعسكرياً من البرّ والبحر والجوّ.
من أجل ذلك من الطبيعي أن يبحث نتانياهو (وهو المعروف بشطارته في الخروج من المآزق منتصراً أو بأقلّ الخسائر) عن وسيلة للحفاظ على سمعته وإنجازاته كأكثر رئيس تربّع على كرسي الرئاسة في تاريخ إسرائيل.
غير أنّ الرئيس بايدن يمسك بورقة ثمينة جداً للضغط على نتانياهو، وهي ورقة العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية (وربّما تركيا أيضاً). فالتفاهم العربي – الأميركي على سحب السفراء العرب من إسرائيل ما دام نتانياهو في السلطة، يقدّم تعويضاً معنوياً لهذه الدول العربية، ويمارس على نتانياهو الضغط الذي يصبّ في مصلحة الرئيس بايدن وسياسته في مرحلة ما بعد الحرب على غزّة. من أجل ذلك يواجه نتانياهو بعد الحرب حالة من ثلاث:
إمّا الاستقالة، وإمّا الإقالة، وإمّا المحاكمة والمحاسبة.
إقرأ أيضاً: لبنان بعد حرب غزّة.. قراءة في علم الوصاية
تاريخ الرجل لا يوحي أبداً بأنّه يمكن أن يستقيل. من هنا حتمية المواجهة الداخلية مع الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أو المواجهة الخارجية مع الرئيس الأميركي بايدن على خلفية مستلزمات التسوية السياسية بعد الحرب.
وفي الحالتين سيخرج نتانياهو من الحرب منتصراً عسكرياً ومهزوماً سياسياً.. وفي الحالتين سيكون خاسراً أخلاقياً وإنسانياً.