قمّة الرياض تسرّع التحوّل في واشنطن

مدة القراءة 5 د


من الصعب العثور على تصريح لوزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين منذ بداية الهجوم البرّي على قطاع غزّة، لكنّ صوته ارتفع أخيراً ليُبلغ الرأي العامّ الداخلي والمستوى العسكري بأنّ منسوب الضغوط الدبلوماسية على تل أبيب لوقف الحرب يتصاعد سريعاً.
قدّر كوهين الوقت المتاح للعمل العسكري بما بين أسبوعين وثلاثة أسابيع قبل أن تشتدّ الضغوط، وتلك فترة ضيّقة جداً لحرب كهذه، فوق أرض غزّة وتحتها. ومن الصعب التقدير ما إذا كانت هذه زلّة لسان من كوهين أم رسالة مقصودة إلى من يعنيهم الأمر ليبدأوا التحضير لوقف إطلاق النار.

الضغط الدوليّ: يعني الأميركيّ
حين تتحدّث إسرائيل عن ضغط دولي عليها فإنّها تعني الولايات المتحدة تحديداً. وهذه الأخيرة بدأ التحوّل في موقفها يتسارع منذ نهاية الأسبوع الماضي ربطاً بثلاثة تطوّرات أساسية:
1- الصور الفظيعة من مجمّع الشفاء وسواه من المستشفيات، لا سيما صور الأطفال الخُدّج الذين ينزعون من أجهزة الحضانة.
2- القمّة العربية – الإسلامية في الرياض.
3- ملفّ الأسرى لدى “حماس”.
يضاف إلى ذلك حمّى الضغط الداخلي الأميركي وفي صفوف الحزب الديمقراطي تحديداً، بعدما باتت القضية الفلسطينية مادّة نقاش سياسي أميركي كما لم تكن من قبل. بدا ذلك من ثلاث رسائل اعتراض داخلية (dissent cables) من موظفين في مراتب دنيا في وزارة الخارجية، على سياسة الوزير أنتوني بلينكن، تطالبه بإعلان موقف صريح يطلب وقف إطلاق النار. وكذلك من خلال التوبيخ الذي صوّت عليه مجلس النواب للعضو الديمقراطية رشيدة طليب، والذي أورث انقساماً وإرباكاً في أروقة الحزب.

في حسابات الحكومة الإسرائيلية أنّ “الهدنة الإنسانية” ليست إلا بداية التحوّل في الموقف الأميركي، وأنّ الموافقة عليها لخمسة أيام ستقود بالضرورة إلى ضغوط لتمديدها

تفاقم الموقف باعتصام مئة من مساعدي أعضاء الكونغرس الديمقراطيين بالكمّامات (لإخفاء هويّاتهم) للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزّة. ويضاف ذلك إلى التظاهرات الحاشدة الداعمة لفلسطين في واشنطن والعديد من المدن في الولايات المتأرجحة التي حسمها بايدن بفارق ضئيل في الانتخابات الأخيرة.
بدأ الضغط الأميركي يتصاعد للموافقة على “هدنة إنسانية” في إطار صفقة لإطلاق الرهائن من النساء والأطفال لدى “حماس”، وبات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو في موقف المعرقل للصفقة، فيما تمتلئ ساحات تل أبيب بالمتظاهرين من أهالي الأسرى والرهائن والداعمين لهم، للمطالبة بالتفاوض لإطلاقهم، في مشهد تقول الصحافة الإسرائيلية إنّه يذكّر بمسير عائلة الأسير السابق جلعاد شاليط من شمال إسرائيل إلى تل أبيب، وضغطها على نتانياهو لإجراء صفقة التبادل عام 2011، التي أُطلق فيها أكثر من ألف أسير فلسطيني. ولا شكّ أنّ الفيديو الذي يوثّق مقتل مجنّدة إسرائيلية أسيرة بالقصف سيزيد من غضب الأهالي ومن الضغوط على نتانياهو.

الإدارة السعوديّة أقلقت إسرائيل
لكن في حسابات الحكومة الإسرائيلية أنّ “الهدنة الإنسانية” ليست إلا بداية التحوّل في الموقف الأميركي، وأنّ الموافقة عليها لخمسة أيام ستقود بالضرورة إلى ضغوط لتمديدها، ولن يكون بالإمكان استئناف الهجوم من حيث توقّف.
العامل الآخر الذي أدّى إلى التحوّل في الموقف الأميركي يتمثّل في الإدارة السعودية للموقف الجامع في القمّة العربية – الإسلامية، والذي وفّر فرصة للجميع للخروج من المأزق، باستثناء نتانياهو. إذ إنّ البيان الختامي وضع إيران، للمرّة الأولى، تحت السقف الجامع للموقف العربي – الإسلامي وللثوابت التي أعلنها البيان الختامي للحلّ السياسي بكامل مندرجاته، بما فيه “حلّ الدولتين”. ولم يقلّل من ذلك التحفّظ الذي أرسلته طهران لاحقاً إلى الأمانة العامّة لمنظمة التعاون الإسلامي من دون أن تعلن مضمونه.

من يراقب التحوّل الذي طرأ على سياسة الإدارة الأميركية في السنة الماضية يدرك كيف تحوّلت السعودية من “دولة منبوذة” في توجّهات بايدن، إلى الركيزة الأساس للنجاح الذي يطمح إلى تحقيقه في وجه الصين من بوّابة الشرق الأوسط خلال السنة الأخيرة من ولايته. وبدا ذلك من كلامه في المؤتمر الصحافي المشترك مع رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي في البيت الأبيض الأسبوع الماضي. إذ إنّه طرح مقاربته للتنافس مع الصين ومشروعها الشهير “الحزام والطريق”، عبر مشروع الممرّ الاقتصادي البديل بين الهند وأوروبا عبر السعودية. ومن الواضح أنّ ركيزة نجاح هذا المشروع في الرياض، وليست في تل أبيب.
شكّلت القمّة العربية الإسلامية الإطار الذي وضعت من خلاله الرياض كلّ ثقلها السياسي والدبلوماسي لإحداث تحوّل في الموقف الدولي، وقد بدأت نتائج ذلك بالظهور من خلال الموقف الذي أعلنه بايدن برفض استهداف المستشفيات في غزّة. ومن دلالات هذا الموقف أنّه أتى خلال استقبال الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو الذي حمل إلى البيت الأبيض “الرسالة الشديدة اللهجة” من قمّة الرياض.
بعد كلّ ما جرى، لم يعد سيناريو الحرب الممتدّة لأشهر الذي رسمه نتانياهو ممكناً، خصوصاً وأنّ الشتاء سيدخل قريباً، وسيأتي مزيد من الضغط من مشاهد اللاجئين في جنوب غزّة، والمرضى والمصابين الذين أجبرتهم إسرائيل على الخروج من مستشفيات شمال القطاع.

إقرأ أيضاً: السعوديّة تقود العودة العربيّة – الإسلامية إلى فلسطين

لذلك العنف غير المسبوق الذي تهاجم به إسرائيل ينمّ عن الشعور بضيق المهلة الزمنية، والحاجة إلى تحقيق صورة نجاح عسكري في الوقت القليل الباقي قبل أن تتّسع دائرة الضغوط الخارجية وينفجر الصراع السياسي الداخلي. كلّ ذلك يجعل الميدان عاملاً حاسماً في الأيام المقبلة، فكلّ صورة لدبّابة مدمّرة أو قتيل في ساحة المعركة ستترك أثراً في معنويات الرأي العام والمقاتلين في طرفَي الصراع.
يدرك الجميع أن لا شيء يوقف الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزّة سوى الضغط الأميركي، لكنّ السؤال يبقى عن مدى قدرة نتانياهو على معاندة واشنطن.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…