الدروز وفلسطين… وليد جنبلاط يصوّب البوصلة (2/2)

مدة القراءة 9 د


الزمن زمن تحولات كبرى. المعركة في غزة مصيرية. رياح التغيير واللعب بديموغرافيا المنطقة وحدود دولها، هبّت. في هذه الأوقات العصيبة، يُسأل عن الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة؛ ما هو موقفها مما يجري؟ وأين هي من اللاعبين الأساسيين؟في أزمنة سابقة مرّت على المنطقة، كان موقف الأقليات من المعارك الكبرى فيها وعليها، يتضمن في طياته، مستقبل حضورها فيها. من وقف مع المهزوم، هُزم معه. ومن التزم جانب المنتصر، لزمه في حكمه. في الأوقات العصيبة كهذه، يقتفي كثر أثر الإشارات التي يطلقها وليد جنبلاط. الرجل ذو باع طويل في هذا المجال. هبّت إبان قيادته الموحدين الدروز في لبنان، رياح كثيرة على المنطقة، ولا يزال حيث هو: على ضفة النهر، تمر به جثث أعدائه الواحد تلو الآخر. رياح التغيير تلك، انحنى البيك لبعضها ووقف في مهب بعضها الآخر؛ وفي الحالين خرج منتصراً. الرياح العاتية تتكسر على صخرة براغماتية البيك، فترجع أدراجها، أو يسيّرها ويجيّرها لخصومه.
تناولت الحلقة السابقة، تشكّل السردية الدرزية تجاه فلسطين في عشرينيات القرن الماضي، على يد الأمير شكيب إرسلان، وحاضر الدروز وأمسهم في المنطقة عموماً وفلسطين، وعلاقتهم بالقضية الفلسطينية على مَرّ مراحلها ومُرّها ومراراتها. في هذه الحلقة الثانية والأخيرة، محاولة لاستكشاف الغد، غد المنطقة عموماً، والدروز فيها خصوصاً.
ما طبيعة العلاقات التي تجمع دروز فلسطين، باليهود فيها، ثم بدولة إسرائيل؟ كيف قرأ وليد جنبلاط عملية “طوفان الأقصى”؟ وبينهما عرض للحلف الدرزي الفلسطيني المعمّدة بدم كمال جنبلاط، الزعيم الدرزي، والقائد العربي، والمفكر والشهيد.

قبل كمال جنبلاط بكثير، سقط الشيخ سلمان الغضبان شهيداً على أرض فلسطين في أثناء تصدّيه للانتداب البريطاني ومخطّطاته

قبل قيام إسرائيل
لم تكن العلاقات بين دروز فلسطين واليهود فيها، مقطوعةً قبل قيام دولة إسرائيل، شأنهم في ذلك شأن بقيّة الطوائف والجماعات على أرض فلسطين. كان اليهود زمن الانتداب البريطاني وقبله، يشترون منتجات دروز فلسطين من الزراعة وتربية المواشي، وهو ما كان يعود عليهم بالفائدة. إلا أنّ هذه العلاقات التجارية كانت محصورة بأشخاص محدّدين وعائلات معيّنة، ولم يكن ثمّة قرار رسمي من مشايخ الطائفة بتقويتها وتطويرها. وهو الأمر الذي ينطبق أيضاً على مختلف المجالات. ذلك أنّ التعاون على نطاق ضيّق جداً من بعض الدروز مع الإسرائيليين لا يعكس قراراً من كبار الطائفة ومشايخها، بل على العكس كان رجالات الدروز في صفّ أبناء جلدتهم العرب، وليس كمال جنبلاط شهيد القضية الفلسطينية الوحيد من أبناء الطائفة.
قبل كمال جنبلاط بكثير، سقط الشيخ سلمان الغضبان شهيداً على أرض فلسطين في أثناء تصدّيه للانتداب البريطاني ومخطّطاته. كان الشيخ سلمان الغضبان مختار قرية البقيعة، وتحت إمرته فصيل مكوّن من 60 درزياً، وقد سقط أثناء تصدّيه لقوة بريطانية على طريق ترشيحا الفلسطينية، عام 1937، هو وثلاثة من رجاله هم محمد الغضبان ويوسف خير وصالح شومري.
الشيخ سلمان الغضبان ليس الوحيد من أبناء الطائفة الدرزية الذين شاركوا في الثورة الفلسطينية في ثلاثينيات القرن الماضي، فاللائحة طويلة وطويلة جدّاً.
لاحقاً، انضمّ الكثير من الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين إلى جيش الإنقاذ، دفاعاً عن فلسطين وطلباً لتحريرها. كان تعدادهم في جيش الإنقاذ نحو ألف شخص. كانوا يشكّلون نسبةً كبيرة منه، ورقماً يُعتدّ به نسبةً إلى عددهم الإجمالي وقتها. وقد انخرطوا في مقاومة الاحتلال مثلهم مثل بقيّة الفلسطينيين والعرب.

حلف معمّد بالدم
يحكم مواقف القادة الدروز، حيث كانوا، هاجس الديمغرافيا، والحفاظ على الطائفة واستمراريتها. كان الرئيس الراحل فؤاد شهاب، على ما ينقل كثر، يطلب كلّما أصدر كمال جنبلاط بياناً، أن يُقرأ بالمقلوب، أي من حيث ينتهي عودةً إلى نقطة البداية. ينمّ قوله هذا المتناقَل كطرفة، عن فهم عميق للزعيم جنبلاط الجدّ، أي كمال، وللواقع الدرزي وثوابته القديمة. كانت بيانات كمال جنبلاط تبدأ بالإمبريالية والرأسمالية ثمّ تعرّج على شعوب العالم الثالث وقضاياها المحقّة، لتنتهي بطلب صغير ومحلّي، وغالباً ما يتعلّق بتعيين موظّف صغير أو تنفيذ مطلب في نطاق ضيّق جداً. طرفة فؤاد شهاب هذه تنطبق على الشهيد كمال جنبلاط، كما تنطبق على نجله ووريثه وليد.

وحده جنبلاط يتفرّد في التقاط اللحظات التاريخية المفصلية، فلا يضيع البوصلة. هو قارئ جيّد للتاريخ

كان كمال جنبلاط، رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي، ورئيس الحركة الوطنية اللبنانية التي تضمّ مختلف الأحزاب التقدمية واليسارية والعلمانية، والأمين العام للجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية. كان مفكّراً وشاعراً وفيلسوفاً وقامةً فكريةً عملاقةً في الشرق والغرب، لكنّه كان أوّلاً وأخيراً زعيم دروز لبنان، وهنا مربط الفرس ومقتل الفارس، أو سجنه الخاصّ.
ناصَر كمال جنبلاط القضية الفلسطينية ورفع لواءها، حتى سقط شهيداً نتيجةً لتموضعه بجانبها. يجزم البعض أنّه دفع حياته ثمناً لتحالفاته الفلسطينية واصطفافه بجانب ياسر عرفات في ظلّ خلاف الأخير مع رأس النظام السوري حافظ الأسد.
ثمّة من يرمي إلى أنّ كمال جنبلاط، وعلى طريقة طرفة فؤاد شهاب، زجّ بالقضية الفلسطينية في أتون الصراعات الداخلية اللبنانية، فأضرّ بالقضيّتين، قضية الحركة الوطنية أو قضاياها، والقضية الفلسطينية. بمعنى آخر، خاض جنبلاط الأب غمار القضية الفلسطينية ووظّفها في إطار درزي ضيّق، ليثأر من شركائه التاريخيين، الموارنة، بعد قرابة مئة عام ونيف على آخر نزاع أو حرب بين الطرفين.
على نهج الأب سار الابن، الذي ورث الزعامة والحزب والحلفاء اللبنانيين والفلسطينيين. لكنّ الزمن كان قد تغيّر. خسرت الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، قائداً عملاقاً وسنداً كبيراً وحليفاً يُعوّل عليه، هو كمال جنبلاط. كان استشهاد كمال جنبلاط في عام 1977، علامةً على تغيّر استراتيجي كبير. وكذلك كان مؤشّراً إلى ولوج مرحلة جديدة ما كانت ربّما لتبصر النور لو بقي.

علاقة معمّدة بالدم
بُعيد اغتيال والده، التقط وليد جنبلاط رسالة المقتلة التي نزلت بأبيه، وفهم التحوّلات من حوله، ويمّم شطر دمشق. لاحقاً، فعل كما غيره من قادة الطوائف: استثمر في التناقضات الفلسطينية. فالرجل الذي بكى خروج أبي عمّار استعان بخصوم الأخير، أي بالفصائل الفلسطينية الموالية للرئيس حافظ الأسد قاتِل أبيه على ما اتّهم الأوّل أكثر من مرّة، ومن أكثر من جهة.
كان لاصطفاف وليد جنبلاط إلى جانب أحمد جبريل وأبي موسى، أي الجبهة الشعبية – القيادة العامة، وفتح الانتفاضة وغيرهما، وظيفة درزية داخلية محدّدة: المساعدة في حرب الجبل بدلاً من الاتّكاء على دعم إسرائيلي مقنّع بهويّة درزية، وتالياً تمكين الزعامة الجنبلاطية والوجود الدرزي.
لكن يُشهد لوليد جنبلاط، على النقيض تماماً من حليفه وصديقه الأبدي، رئيس حركة أمل نبيه بري، أنّه لم يلوّث يديه بدم الفلسطينيين، لا قبل حرب المخيّمات، ولا في أثنائها، ولا بعدها.
من أضرّ بمن؟ أو من استفاد ممّن؟ لا تنفي كلّ الإجابات المحتملة والمتباينة، موقف دروز لبنان والبيت الجنبلاطي من القضية الفلسطينية، وهو موقف متقدّم، يشهد لهم فيه الحليف والخصم، والقريب والبعيد. موقف عمّده جنبلاط الأب بدمائه، وعمّده دروز لبنان عموماً بدماء شهدائهم دفاعاً عن القضية الفلسطينية ودعماً لها.

لا يخفى على وليد جنبلاط أنّ يهودية الدولة الإسرائيلية، تقتضي تهجير الدروز العرب الأقحاح، تماماً كما تقتضي تهجير المسلمين السنّة والمسيحيين من فلسطين وإبعادهم عنها

“طوفان الأقصى”
يسأل كثر اليوم عن موقف وليد جنبلاط ممّا يجري في غزّة، ليعرفوا من خلال هذا الموقف تموضعه في ساحات أخرى، وموقفه من قضايا أخرى. بعض هذه المواقف قد لا يخرج من إطار الزواريب الضيّقة، وبعضها قد يشمل قضايا عابرةً للقارّات والكوكب.
كان موقفه منذ اندلاع الحرب في قطاع غزّة، استراتيجياً وتاريخياً. منذ البدء كتب مغرّداً على منصة “إكس”: “إلى المجنّدين قهراً من العرب الدروز في الجيش الإسرائيلي في فلسطين المحتلّة.. إيّاكم الاشتراك في الحرب في مواجهة المناضلين من حماس ومن الشعب الفلسطيني. إنّ حركة التاريخ مهما طالت مع حرّية الشعوب، وسيأتي اليوم الذي ستعود فيه فلسطين ومقدّساتها إلى أصحابها العرب”.
ذهب جنبلاط أبعد من ذلك ليؤثّر إيجاباً، فقد أرفق منشوره بوسم (هاشتاغ) “# حرب _ تشرين”، مع صورة الراية المعروفة لطائفة الموحّدين الدروز. الأكيد فشلت مساعيه في تحييدهم، لكنّه سجّل موقفه في هذه اللحظة الحرجة.
ازداد وضع الدروز حراجةً في الخيال السياسي الطاعن بطبيعة العلاقة بين الدروز وهويّتهم العربية، عندما راح ناشطون فلسطينيون على وسائل التواصل، وعن نقص فادح في الرصانة العقلية، يبثّون مثل الناشطين الإسرائيليين مقاطع فيديو لقرى درزية بعينها وتحديداً في الجليل وهم يقومون بإرسال المساعدات إلى الجيش الإسرائيلي.

إقرأ أيضاً: “الدرزيّة السياسيّة” وفلسطين… علاقة تلفّها “الكوفيّة” (1/2)

إن لم تكن الأمور سيّئة بين إسرائيل وأبناء الموحّدين في الجليل، لكنّها كانت على العكس تماماً مع دروز الجولان السوري منذ احتلاله عام 1967. وكلّما احتدمت أزمة الهويّة قرّرت أكثريّة “بني معروف “من الجولانيّين تفضيل سوريّتهم على إسرائيليّة مفروضة”.
وحده جنبلاط يتفرّد في التقاط اللحظات التاريخية المفصلية، فلا يضيع البوصلة. هو قارئ جيّد للتاريخ. كلاهما يسكُن الآخر. يعرف تمام المعرفة أنّ الرهان على الغرب، زمن فخر الدين المعني الثاني، هو ما أودى بالدروز ذات يوم وذهب بملكهم.
لا يخفى على وليد جنبلاط أنّ يهودية الدولة الإسرائيلية، تقتضي تهجير الدروز العرب الأقحاح، تماماً كما تقتضي تهجير المسلمين السنّة والمسيحيين من فلسطين وإبعادهم عنها. فاليوم لحركة حماس والأيام التالية لغيرها، إن نجحت في ما ترمي إليه.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…