“الشيعية السياسية” لها جذور منذ ما قبل ولادة “لبنان الكبير” في 1920. وارتباط الشيعة بفلسطين لم يبدأ بعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها حركة “حماس” ضدّ إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) الفائت.
في هذه السلسلة، عودة إلى التاريخ، لنفهم الحاضر، منذ نكبة الشيعة السابقة على نكبة فلسطين، إلى حقبة الإمام موسى الصدر، الإيراني اللبناني، مروراً بالمعارك الشيعية – الشيعية في لبنان، وليس انتهاءً بتسيّد الحزب على المشهد الشيعي في لبنان والمنطقة.
أسئلة غزّة أعادت طرح كلّ تاريخ العلاقة بين الشيعة والقدس، من زيارتها في العشرينيات والثلاثينيات، إلى التفكير في “تحريرها”، منذ الأربعينيات، وليس انتهاءً بطريق القدس التي مرّت في دول عربية كثيرة، فأهدرت دماءً، وغيّرت ديمغرافيا….
في الحلقة الثانية، استعراض لتاريخ التقارب والتباعد بين الشيعة والفلسطينيين، من حرب المخيّمات بين الفلسطينيين وحركة أمل، وظلال النفور السنّي – الشيعي، إلى حرب الحزب ضدّ حماس في سوريا…
“الشيعية السياسية” لها جذور منذ ما قبل ولادة “لبنان الكبير” في 1920. وارتباط الشيعة بفلسطين لم يبدأ بعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها حركة “حماس” ضدّ إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) الفائت
في 23 آذار عام 1949، وقّع الجانبان اللبناني والإسرائيلي، في رأس الناقورة، على اتفاقية هدنة بموجبها يلتزم الطرفان بعدم اللجوء إلى القوة العسكرية لتسوية قضية فلسطين، وبامتناع الجانبين عن اتخاذ أيّ عمل عدائي ضدّ شعب الجانب الآخر أو قوّاته، أو إعداد مثل هذا العمل أو التهديد به. كما يعترف الجانبان بمبدأ عدم جواز تحقيق أيّ فائدة عسكرية أو سياسية من جرّاء الهدنة التي حثّ عليها مجلس الأمن.
لم يوقّع لبنان وحده اتفاقية هدنة مع الجانب الإسرائيلي. الدول المجاورة لإسرائيل، مصر وسوريا والأردن، أبرمت اتفاقيات مماثلةً لها أيضاً.
بعد هزيمة الجيوش العربية عام 1948، التجأ عدد كبير من الفلسطينيين إلى لبنان واستقرّوا في الجنوب اللبناني وفي بيروت وغيرهما من المناطق. لكنّ ما سُمّي “العمليات الفدائية” انطلق فعلياً بعد نكسة عام 1967، وبدءاً من عام 1968، ثمّ ازدادت وتيرته وتكثّفت بعد عام 1970. وهذا لا يعني أنّ العمليات الفدائية كانت معدومةً قبل ذلك.
بين التاريخين: النكبة والنكسة، كان الجيش اللبناني يمسك بزمام الأمور جيداً، وكان يتولّى أمن المخيّمات الفلسطينية والفلسطينيين. كانت إجراءاته مشدّدةً جدّاً وثقيلةً عليهم.
بين التاريخين أيضاً، وقعت انقلابات عسكرية في أكثر من بلد عربي. برزت أحزاب سيطرت على المشهد العربي عموماً من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. كان أبرزها حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب بالإضافة إلى الأحزاب والمنظمات اليسارية والاشتراكية والشيوعية. وكانت بغالبيتها أحزاباً ثوريةً تدعو إلى الكفاح المسلّح ضدّ العدوّ الإسرائيلي. كما تدعو إلى حمل السلاح وتدرّب عناصرها عليه استعداداً لتحرير فلسطين والأمّة.
بيئة حاضنة شيعيّة
لقي الفلسطينيون اللاجئون في جنوب لبنان دعماً منقطع النظير من أهل الجنوب، وأحزابه وزعاماته. كانت القضية الفلسطينية هي الرافعة التي يقوم عليها كلّ خطاب، وكلّ حزب وكلّ دعوة.
حتّى إنّ أحمد الأسعد، الزعيم الجنوبي الأبرز في حينه، شكّل تنظيماً عسكرياً لمقاتلة الإسرائيليين قوامه عشرون ألف مجاهد، فقصفت إسرائيل دارته في الطيبة مرّات عدة، حتى أحالتها خراباً.
حين انطلق الكفاح المسلّح والعمليات الفدائية، بعد عام 1969، على إثر توقيع لبنان اتفاقية القاهرة التي تنظّم وتشرعن العمل الفدائي لتحرير فلسطين انطلاقاً من لبنان، انخرط الجنوبيون بمختلف مذاهبهم وطوائفهم، في العمل الفدائي وفي الفصائل الفلسطينية كافّة، وعلى رأسها حركة فتح.
الظلم الذي تعرّض له الفلسطينيون لاقى صدى في وجدان الجنوبيين، المهمّشين يومها في وطنهم، والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية لأسباب عديدة، أبرزها أنّها كانت مقصدهم وباب رزقهم، تاريخياً. المهمّشون المتضامنون هؤلاء ستخوض كثرة منهم لاحقاً حرباً ضروساً على الفلسطينيين ستأخذ عنوان: “المحرومون في أرضهم والمحرومون من أرضهم”.
وهنا راحت المشروعية الفلسطينية تهتزّ في بيئة أهل الجنوب والشيعة.
إلى ذلك، شكّلت الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب والجنوبيين ولبنان، عاملاً رئيساً دفعهم إلى تشكيل بيئةً حاضنة للفصائل الفلسطينية في كفاحها المسلّح لتحرير فلسطين.
بين التاريخين: النكبة والنكسة، كان الجيش اللبناني يمسك بزمام الأمور جيداً، وكان يتولّى أمن المخيّمات الفلسطينية والفلسطينيين. كانت إجراءاته مشدّدةً جدّاً وثقيلةً عليهم
أدّت العمليات الفدائية اليومية من جنوب لبنان ضدّ العدو الإسرائيلي إلى ردّات فعل إسرائيلية عنيفة. وقع مطار بيروت ضحيّة إحداها، إلى أن اجتاح الجيش الإسرائيلي الجنوب اللبناني واحتلّه عام 1978، وصولاً إلى نهر الليطاني، فتشكّلت تنظيمات وأحزاب وحركات انخرطت في العمل العسكري لتحرير الجنوب اللبناني وفلسطين، برعاية وتمويل ومساعدة من منظمة التحرير الفلسطينية، أبرزها حركة أمل “أفواج المقاومة اللبنانية”، والاسم على ما يشاع من بنات أفكار ياسر عرفات شخصياً.
أبعد من ذلك، برز على الساحة الجنوبية، واللبنانية، الإمام السيد موسى الصدر، رجل الدين الشيعي الذي دعا إلى حمل السلاح “زينة الرجال”، وأعلن في أوج دعوته أنّ “القدس تأبى أن تتحرّر إلا على أيدي المؤمنين الشرفاء”، في غمز واضح منه من قناة الفصائل والأحزاب اليسارية والشيوعية.
تماهت القضية الفلسطينية مع القضايا الجنوبية كافّة، من التهميش والمشاركة، إلى التنمية والتحرير.
فلسطين… تفرّق ولا تجمع
إلا أنّ القضية الفلسطينية لم تكن محلّ إجماع وطني لبناني. للدقّة، الكفاح المسلّح الفلسطيني والوجود العسكري الفلسطيني ساهما في شرخ وطني كبير قسّم لبنان شطرين، وساهم في أسباب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
صارت القضية قضايا. وأصبحت “طريق القدس تمرّ من جونية”. بات السلاح الفلسطيني وسيلةً لبعض اللبنانيين للاستقواء على البعض الآخر، وغرقت القضية الفلسطينية في زواريب السياسة اللبنانية، حتى وصلت إلى البيوت والعائلات.
صار للقضية حلفاء في لبنان، ولإسرائيل أيضاً.
في عام 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت العاصمة اللبنانية بيروت، ولم تخرج منها إلا بعد خروج الفلسطينيين من لبنان إلى تونس عبر البحر.
لم تتوقّف الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب، وتالياً لم تتوقف العمليات الفدائية ضدّها، والتي كان أبرز من يقوم بها في ثمانينيات القرن الماضي، “مناضلو جبهة المقاومة اللبنانية – جمّول”، التابعة للحزب الشيوعي اللبناني وغيره من تنظيمات ماركسية ويسارية وقومية، ورفدهم “مجاهدو أفواج المقاومة اللبنانية ـ أمل” إلى حين. كذلك لم تنقطع العمليات الفدائية الفلسطينية التي كانت تقوم بها بنحو رئيس “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” و”الجبهة الديمقراطية” وفصائل فلسطينية أخرى.
أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت، برز تنظيم مسلّح جديد على الساحة الجنوبية، والشيعية تحديداً، هو الحزب، الذي سيحتكر المقاومة لاحقاً مطلع التسعينيات برعاية إيرانية سورية لا لبس فيها.
معه صار الصراع مع إسرائيل “بوّابة” دخول “الشيعية السياسية” إلى لبنان. هذا الواقع يُؤشّر إليه اعتبار أنّ المارونية السياسية ومعها السنّية السياسية أقامتا لبنان الكبير. الأولى بوّابته إلى الغرب. الثانية ضمانته وبوّابته إلى العالم العربي.
“تشييع” المقاومة بهذا المعنى كان المدخل إلى الوطن ليعلن: “نحن من يقرّر في الجيو ـ بوليتيك”. وهذا كان واقعاً عبّر عن ذاته بوضوح فاقع يوم صار قرار الحرب والسلم بيد “الشيعية السياسية” سواء مع إسرائيل أو في الذهاب إلى سوريا ومن قبلها العراق ولاحقاً اليمن.
القضية الفلسطينية لم تكن محلّ إجماع وطني لبناني. للدقّة، الكفاح المسلّح الفلسطيني والوجود العسكري الفلسطيني ساهما في شرخ وطني كبير قسّم لبنان شطرين، وساهم في أسباب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية
الشقاق الفلسطينيّ – الشيعيّ… والأرزّ على الإسرائيليّين
لاحقاً لم يعد يلقى الوجود الفلسطيني على أرض الجنوب الرعاية الأهلية نفسها، ولا الاحتضان الشعبي، بسبب تجاوزات الفلسطينيين العديدة على أرضه وأهله، وهو ما خلق حساسيات بينهم وبين الجنوبيين، وغالبية الأخيرين هم من الشيعة. هذه التجاوزات أدّت إلى نفور شديد بين الجانبين، مرّة باستقبال دخول الاحتلال الإسرائيلي بالأرزّ. وأخرى تكرّست في شنّ حركة أمل حرباً على المخيّمات الفلسطينية وحصارها ردحاً من الزمن برعاية وطلب سوريّين، في أواسط الثمانينيات.
خلقت تجاوزات الفلسطينيين والفصائل الفلسطينية المقاومة من أرض الجنوب وفيه، حالة من النفور والعداء بين الشيعة والفلسطينيين، بإرادة سورية لا لبس فيها، انبرى إلى تبنّيها رئيس حركة أمل يومها، وحتى يومنا هذا، نبيه برّي. حالة من النفور، بل العداء، لا تزال مفاعيلها إلى اليوم، وإن بخجل.
النفور والعداء المحكم بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، والذي سال حبر كثير حوله، ودم أكثر نتيجةً له، انتقل إلى موالي الأسد وحلفائه والعاملين تحت لواء وجوده العسكري في لبنان، والمؤتمرين بأمره وأمر أجهزته.
وهو إلى كونه خلافاً سورياً ـ فلسطينياً، وخلافاً جنوبياً ـ فلسطينياً، هو في أحد أبعاده خلاف سنّي – شيعي، يمضي فوق دم شيعي كثير سال ويسيل في سبيل تحرير فلسطين وقضيتها، من مدن عربية كثيرة، بعد الربيع العربي وخريفه.
الشيعة وتحرير القدس
تحرير القدس ليس موضع إجماع شيعي، بين فقهاء الشيعة ومراجعهم. عملياً القدس مدينة الخليفة الثاني للمسلمين عمر بن الخطاب، الذي فتحها ودخلها، والأقصى مسجد بناه الأمويون، في أيام الخليفة عبد الملك بن مروان، وأكمل بناءه ابنه الوليد بن عبد الملك من بعده.
ثمّة في أدبيات الشيعة وبين فقهائهم، من يرى أنّ هناك أماكن مقدّسة أكثر أهميةً وقضايا ملحّة أكثر من قضية فلسطين، وأنّ الجهاد لا يجوز إلا بين يدي إمام عادل. كما أنّ بينهم من لا يحبّذ حماس، الحركة التي قاتلت الحزب حليف رأس النظام السوري بشار الأسد، في سوريا، وأثخنت مقاتليه بالجراح وأمعنت فيهم قتلاً، خاصةً في القصير السورية بالقرب من الحدود اللبنانية.
إقرأ أيضاً: الشيعة فلسطينيّون منذ 1920… إلى غزّة؟
يعزو كثر الانقلاب الشيعي الأول على الفلسطينيين إلى تجاوزات الأخيرين في الجنوب، وإلى إرادة سورية واضحة في ذلك، بينما يعزون الانقلاب على الانقلاب الأول الذي قام ويقوم به الحزب، إلى إرادة خمينية إيرانية استمرّت مع وريث الخميني، وليّ الفقيه الثاني، الإمام علي خامنئي.
تخصيص الخميني يوماً للقدس، يتمّ الاحتفال به سنوياً منذ أربعة عقود ونيف، انقلاب في الوجدان الشيعي، وتصحيح تاريخي للبوصلة الشيعية، تعزّز بما لا يدعو للشكّ في تدريب وتمويل حركات المقاومة الفلسطينية في غزّة وخارجها وعلى رأسها حركة الجهاد الإسلامي، ثمّ حركة حماس. وهو ما يُظهر تضادّاً واضحاً وتناقضاً جليّاً بين حركة أمل، وحزب الله اللبناني المنبثق منها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@