السودان.. ومصيره “اليوغوسلافيّ”

مدة القراءة 6 د


خلف ستار الدخّان والمجازر التي تغطّي سماء غزّة وأرضها وتشغل العالم والعواصم، يسير السودان على الطريق اليوغوسلافي، وتُرسم له خرائط جديدة وانقسام آخر أشدّ إيلاماً من انفصال جوبا عن الخرطوم والسودان الكبير الذي أقام دولتين ضمن حدود واحدة.

سريعاً تتساقط حاميات الجيش السوداني في العواصم المحلية لمقاطعات إقليم دارفور أمام الهجمات الساحقة لقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، الغائب عن المشهد منذ أشهر ويكتفي بالتسجيلات الصوتية والمصوّرة.

سقطت أوّلاً “الفرقة 16″، الحامية الكبرى للجيش السوداني في الشرق، وسقطت معها نيالا حاضرة ولاية جنوب دارفور، وكبرى المدن السودانية بعد الخرطوم، ثمّ كرّت السبحة بانهيار قاعدة زالنجي وباتت الهجمات تهدّد الفاشر والجنينة الحواضر الأخرى في ولايات دارفور الأخرى قبل استكمال السيطرة على الإقليم الشاسع الذي يوازي فرنسا مساحة.

خلف ستار الدخّان والمجازر التي تغطّي سماء غزّة وأرضها وتشغل العالم والعواصم، يسير السودان على الطريق اليوغوسلافي، وتُرسم له خرائط جديدة وانقسام آخر أشدّ إيلاماً من انفصال جوبا عن الخرطوم والسودان الكبير الذي أقام دولتين ضمن حدود واحدة

يزداد الأمر خطورة مع وصول قوات “حميدتي” إلى مدينة الأُبَيِض، حاضرة ولاية شمال كردفان، وجعل هذا الإقليم الواقع شرق دارفور أيضاً في عين العاصفة. وهو إقليم لا يقلّ أهمية عن جارتة دارفور، إذ يملك الثروة النفطية والزراعية والحيوانية ويُعدُّ، بتركيبته السكّانية، السودان المصغّر.

عاصمة الصمغ العربيّ… واستقلال حميدتي

تمثّل نيالا، عاصمة الصمغ العربي، ثقلاً اقتصادياً وآخر تجارياً وازنين نظراً لموقعها الجغرافي المحاذي لدول ليبيا وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان، وقربها من تشاد، ويمثّل سقوطها منعطفاً خطيراً في الحرب السودانية الجديدة، فهو يُكسب قوات “الدعم السريع” ميزات عسكرية واقتصادية وسياسية تمنحها الاستقلال المادّي، ويسهّل السيطرة على الإقليم برمّته ويجعله قاعدة قويّة لنفوذها، وهو ما يتيح لأفرادها حرّية العمل في حاضنتهم البشرية التي ينحدر منها معظمهم ويوفّر لهم القدرة على المزيد من التجنيد.

في دارفور صنع “حميدتي” أسطورته، وتنقّل فيها من صبيّ صغير يرعى الإبل ويهرّبها، إلى قائد لميليشيا “الجنجويد” صاحبة الصيت السيّئ في حروب الإقليم، قبل أن يصير اليد اليمنى للرئيس المخلوع عمر البشير ثمّ ينقلب عليه في اللحظة الحرجة أثناء انتفاضة الشباب في الخرطوم ليصير ويصنع من نفسه شريكاً في سلطة انتقالية سعى إلى الاستئثار بها وحده على حساب الجيش والقوى المدنية ففجّر حرباً دموية معه.

في دارفور الآن يسعى إلى القبض على رهينة دسمة يساوم بها على دور سلطوي رئيسي في الخرطوم، وفي أسوأ الأحوال على جعلها قاعدة له جاهزة للانفصال لتأسيس دولته الخاصة على أرضها وما يمكن انتزاعه من أراضي الولايات المجاورة، ولا سيما كردفان التي يتمتّع بها بنفوذ أيضاً، وتكرار ما حصل في جنوب السودان.

هجوم قوّاته الساحق في الإقليم تزامن مع محادثات في جدّة للمّ الشمل السوداني ووقف النار، وكأنّه بذلك يوجّه رسالة إلى من يعنيهم الأمر بأنّه ماضٍ في معركته حتى النهاية ولا شيء يردعه عن الوصول إلى مبتغاه الأساسي: حكم السودان كلّه إذا استطاع، أو اقتطاع دارفور وجوارها لإقامة جمهوريته الخاصة على غرار ما فعله الجنوبيون في جوبا.   

سريعاً تتساقط حاميات الجيش السوداني في العواصم المحلية لمقاطعات إقليم دارفور أمام الهجمات الساحقة لقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، الغائب عن المشهد منذ أشهر ويكتفي بالتسجيلات الصوتية والمصوّرة

المصير اليوغوسلافيّ

للمرّة الأولى منذ اشتعال حرب الجيشين في الخرطوم، يبدو حقيقياً خطر التقسيم الذي سيجعل السودان يوغسلافيا أخرى تُقطَّع خريطته بالسكاكين وتتحوّل جمهوريات قزمة ما يفرّق بينها أكثر ممّا يجمع.

إذا حصل هذا التحوّل فلن يوقف الحرب والدم لا بل سيسعّرهما لأنّ القتال سيشتدّ في المناطق التي يسعى كلّ من الطرفين المتقاتلين إلى ضمّها إلى نفوذه، لا سيما في الخرطوم حيث سيكون الحسم هناك: فإذا كسب “الدعم” في عاصمة البلاد صار السودان أسيراً لحكم ميليشيا مرفوضة من غالبية السودانيين. وهو ما يفجّر نزاعاً خطيراً لا ينتهي بسهولة. وإذا ربحها الجيش رحل “الدعم” إلى ملاذه الأخير دارفور.

حرب كهذه مثل حرب الجنوب تغري الجيران والأجانب بمدّ اليد إلى الداخل للعبث به أو لتحقيق مآرب خاصة ومصالح على حساب السودان والسودانيين.

لكنّ دارفور أيضاً ليست حصناً منيعاً لأنصار “حميدتي”. هي كالجنوب مثقلة بتاريخ حافل بالنزعات القبلية والعرقية. قبائل الزريقات العربية التي ينحدر منها الرجل ومريدوه، هم جزء من رهط من القبائل العربية الأخرى والأفخاذ مثل الزيادية وأبي فضل وبني حسين والفلاتة. الودّ مفقود أوّلاً بينها، ثمّ بينها وبين القبائل الدارفورية الأخرى المنحدرة من أصول إفريقية مثل الفور والمساليت والزغاوة والتاما. كلّ هؤلاء من المسلمين السُّنّة، ولكلّ منهم امتداداته القبلية والسياسية في البلاد المجاورة، ويختلفون على الزرع والرعي ومناجم الذهب وتجارة المواشي، ويتقاتلون وحدثت بينهم مجازر دموية شنيعة حرّكت الأمم المتحدة والعواصم الكبرى والمحاكم الدولية التي أدرجت البشير وعدداً من قادته على لائحة المطلوبين.  

ما هي هويّة السودان؟

مأساة السودان كانت وما تزال في عدم قدرة من تناوب على حكمه على الاتفاق على هويّة سودانية تجمع تنوّعه ولا تفرّق بينه. العروبة لم يهضمها المنحدرون من الأعراق الإفريقية والنوبية من البجا والهوسا والدينكا والفور والكواليب وغيرهم المئات. واللغة العربية لم يستسِغها الناطقون بلغات ولهجات أخرى:

– تطبيق الشريعة الإسلامية أخاف المسيحيين والأرواحيين أصحاب العقائد والشرائع المختلفة.

– والعلمانية لم تقِم العدالة ولا التنمية المتوازنة وحسن التوزيع بين المركز والأطراف.

– أمّا الديمقراطية فكانت شعاراً تتلطّى خلفه الأحزاب وتفعل عكسه.

– كذلك كان شعار الأمّة السودانية الواحدة.

إقرأ أيضاً: غزّة: التحدّي الأصعب للسيّد

هكذا ظلّ السودان خليطاً هجيناً غير قادر على الانسجام لتشكيل وحدة وطنية، وهو ما انعكس صراعاً وخلافات بين المكوّنات والأقلّيات والحركات السياسية والدولة، الأمر الذي هزّ استقرار البلد وتطوّره وجعله عرضة للانقسامات والتفتّت.

لذا السيطرة على دارفور وأجزاء من كردفان، وإعلان حكومة من نيالا موازية للعاصمة القومية في الخرطوم، لا يعنيان نهاية المخطّط المرسوم، ولا نهاية الحرب ومشاكل السودان، بل سيقودان إلى انقسامات أخرى على مثال يوغوسلافيا التي تجزّأت إلى ستّ جمهوريات بكلفة أكبر بكثير من تلك التي تكبّدتها شعوب البلد الواقع في قلب أوروبا.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…