في سياق حرب غزّة والمجازر المريعة التي ترتكبها إسرائيل عن سابق تصوّر وتصميم، يبدو ضرورياً التوقّف عند أمرين يهمّان لبنان الذي دخل، من حيث يدري، حرب غزّة من دون أن يدخلها. أوّل الأمرين الإصرار على السماح لـ”حماس” باستخدام الجنوب اللبناني لقصف الداخل الإسرائيلي والآخر غياب أيّ أمل في انتخاب رئيس للجمهوريّة في المستقبل القريب.
ثمّة تكامل بين الأمرين نظراً إلى أنّهما تعبير عن إصرار لدى الحزب على تدمير ما بقي من لبنان… هذا إذا كان ما يزال هناك شيء يذكر من البلد. في النهاية، إنّ “حماس” موجودة في جنوب لبنان بفضل الحزب الذي أعاد إحياء اتفاق القاهرة المشؤوم على طريقته.
تكتفي الدول العربيّة في الوقت الحاضر بالتشديد على ضرورة وقف النار ومباشرة البحث في حلّ سياسي
في الوقت ذاته، يعيق الحزب انتخاب رئيس للجمهورية رغبة منه في تكريس سابقة وصول مرشّحه إلى قصر بعبدا، وربّما الذهاب إلى أبعد من ذلك. هذا يعني أنّ رئيس الجمهوريّة اللبنانية يختاره الحزب… في ما عدا ذلك، لا رئيس للجمهوريّة اللبنانية ولا من يحزنون. يقول الحزب للّبنانيين إنّ عليهم العيش طويلاً في ظلّ الفراغ الرئاسي وانتظار ما ستؤول إليه حرب غزّة وكيف ستنعكس على الوضع الإقليمي في مجمله. يقول لهم أكثر من ذلك. يقول لهم إنّه سيأتي يوم يندمون فيه على عدم انتخاب مرشّحه رئيساً. عليهم، من وجهة نظر الحزب، الاستعداد لمرحلة جديدة هي مرحلة المؤتمر التأسيسي الذي سيسبق انتخاب أيّ رئيس جديد للجمهورية بعد تعديل اتفاق الطائف.
هل حسابات الحزب، ومن خلفه إيران، في محلّها، خصوصاً أن ليس ما يضمن انتصاره في حرب غزّة في غياب صفقة بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” و”الشيطان الأكبر”؟
مرج الزهور… ورفيق الحريري
عند إبعاد إسرائيل لقياديّي “حماس” و”الجهاد” إلى مرج الزهور بجنوب لبنان في عام 1992، رفض رفيق الحريري، وكان وقتذاك رئيساً لمجلس الوزراء، خروج هؤلاء من المخيّم الذي أُقيم لهم في تلك المنطقة. أصرّ على عودتهم من مرج الزهور إلى فلسطين.
كان ذلك قراراً شجاعاً يدلّ على وجود إصرار لبناني على منع تحويل البلد “ساحة” لإسرائيل ترمي فيها من لا ترغب في بقائه في الأرض الفلسطينية. لا يوجد في الوقت الحاضر صوت رسمي لبناني يقول بالفم الملآن إنّ مصلحة لبنان تكمن في البقاء في منأى عن حرب غزّة وإنّه ليس جزءاً من تلك الحرب التي تستخدمها إسرائيل لتصفية القضيّة الفلسطينية.
ثمّة خوف كبير من ارتداد إسرائيل على لبنان في مرحلة ما بعد الانتهاء من تدمير غزّة. لا مصلحة للبنان لا في فتح جبهة الجنوب ولا في تحويل الجنوب جبهة “مساندة” تُستخدم لإلهاء الجيش الإسرائيلي وتجميد قسم من قواته، كما ورد على لسان الأمين العامّ للحزب في خطابه الأخير. لا مكان لمثل هذا النوع من التصرّفات في عالم يرفض الاعتراف بوجود ما يمكن تسميته بنصف حرب.
ليست المناوشات التي يمارسها الحزب مزحة. ليس إطلاق “كتائب القسّام”، الجناح العسكري لـ”حماس”، 16 صاروخاً في اتجاه الجليل الأعلى سوى تعبير عن رغبة في توريط لبنان، شيئاً فشيئاً، في حرب غزّة التي فضّل العرب الوقوف موقفاً حذراً منها.
ليس مفهوماً لماذا هذا الإصرار الشديد على توريط لبنان لنفسه، خارج أيّ منطق من أيّ نوع، في مأزق هو في غنى عنه… ما دام يوجد القرار 1701 الذي وُجد لحمايته ومنع العودة إلى ما قبل حرب صيف 2006
حروب إيران… على حساب العرب
تكتفي الدول العربيّة في الوقت الحاضر بالتشديد على ضرورة وقف النار ومباشرة البحث في حلّ سياسي. تذهب دول عربيّة إلى إرسال مساعدات إلى الغزّاويّين على الرغم من الحصار الذي تفرضه إسرائيل. يدلّ ذلك على وجود وعي عربي حقيقي لأهمّيّة رفض الانجرار إلى أجندة تسعى إيران إلى فرضها في المنطقة. تقوم هذه الأجندة على استخدام الآخرين في حروب غير مباشرة تخوضها من أجل دفع مشروعها التوسّعي إلى أمام… على حساب كلّ ما هو عربي في المنطقة وعلى حساب أهل غزّة تحديداً.
يوجد إدراك عربي حقيقي لخطورة توسيع الحرب في ظلّ إصرار أميركي على دعم إسرائيل إلى أبعد حدود. أين لبنان من هذا الإدراك العربي الذي يفرض عليه النظر إلى حماية مصالحه الوطنيّة قبل أيّ شيء آخر؟
تطرح حرب غزّة أسئلة صعبة لبنانياً. بين هذه الأسئلة لماذا هذا الإصرار لدى الحزب على زجّ البلد في حرب لا قدرة له على خوضها؟
الجواب أنّ الحزب غير مهتمّ بمصير لبنان واللبنانيين. لا حاجة إلى البحث عن أجوبة ما دام قرار فتح جبهة جنوب لبنان بالكامل أو فتحها جزئياً، على شكل نصف حرب، في طهران وليس في بيروت.
لبنان وفرض شروط حماس
ضروريّ امتلاك ما يكفي من الشجاعة لتسمية الأشياء بأسمائها. يبدأ ذلك بالاعتراف بأنّ “حماس” حقّقت يوم السابع من تشرين الأوّل 2023 انتصاراً تاريخيّاً كبيراً لا سابق له على إسرائيل. المفارقة أنّ الحركة الإسلاميّة لا تستطيع صرف هذا الانتصار في السياسة. “حماس” في مأزق. إسرائيل في مأزق أكبر بعدما انكشف أنّ الخروج من المأزق الذي تعاني منه يتطلّب مزيداً من العنف والوحشية في مواجهة غزّاويّين لا حول لهم ولا قوّة.
إقرأ أيضاً: بين الحصارين: 41 عاماً من بيروت إلى غزّة
ليس مفهوماً لماذا هذا الإصرار الشديد على توريط لبنان لنفسه، خارج أيّ منطق من أيّ نوع، في مأزق هو في غنى عنه… ما دام يوجد القرار 1701 الذي وُجد لحمايته ومنع العودة إلى ما قبل حرب صيف 2006. يعود ذلك إلى أنّ لبنان ليس، بالنسبة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة”، سوى “ساحة” تمارس فيها كلّ ما تحتاج إليه من مناورات، بما في ذلك مناورة نصف الحرب ومنع انتخاب رئيس للجمهوريّة، بغية التأكيد لـ”الشيطان الأكبر” أنّ ما تمتلكه من قدرات على شنّ حروب بواسطة آخرين… سيفرض عليه صفقة ما في يوم من الأيّام!