غزّة: التحدّي الأصعب للسيّد

مدة القراءة 6 د


ربّما أصعب تحدٍّ واجه الأمين العام للحزب حسن نصرالله هو الإعلان الرسمي عن القرار الحاسم إزاء الفظائع الإسرائيلية الجارية في قطاع غزّة ومساندة حليفته الفلسطينية “حماس” التي تواجه خطر الاستئصال والذبح.
كان أمامه واحد من 3 خيارات: أن يضغط على الزرّ لإطلاق الصواريخ وأن يردّ على الجنون الإسرائيلي بمثله كي تتوقّف المجزرة أو أن تزداد استعاراً وتحرق بنارها الجميع، أو أن يبتعد عن الانفعال ويدوزن مشاركته في المعركة الدائرة حالياً حتى لا يجد نفسه وحيداً في مواجهة نيران المدمّرات الأميركية والأطلسية والإسرائيليين، أو المحافظة على الصمت وإبقاء الغموض سيّد الموقف.
فئة من الذين انتظروا الخطاب كانوا يريدون أن يضغط على الزناد لأنّهم غاضبون من حمام الدم الجاري في غزّة، ولا سيّما إبادة الأطفال، الأمر الذي لا يحتمله أيّ حسّ إنساني، ولأنّ المعركة قد فتحت على أرض فلسطين وثمنها باهظ، وإذا كان لا بدّ من الدفع فلتكن الفاتورة كاملة لمرّة واحدة ولننهِ هذا الصراع مرّة واحدة بمعركة صفرية تُفتح فيها الجبهات وتكون نتيجتها الحسم النهائي: الوطن أو الموت.
فئة أخرى كانت ترى أنّ أوان المعركة المفتوحة لم يأتِ بعد وظروفها لم تنضج في ظلّ اختلال التوازن العالمي والإقليمي لمصلحة إسرائيل، فإمّا أن يخوضها كلّ المعنيين بها من دول عربية وشعوب مجتمعين في ظلّ توازن أفضل، وإمّا أن لا تُخاض بفلسطينيّي غزّة واللبنانيين الذين يدفعون وحدهم الضريبة عن كلّ العرب الآخرين. وثمّة فئة لا يهمّها الرأيان وجلّ ما يهمّها أمران اثنان: أن يبقى “الحزب” خارج المعركة للشماتة به واعتباره هارباً من المعركة ومتخلّياً عن فلسطين وحليفه الفلسطيني في اللحظة الحاسمة، أو أن يدخل الحرب بصفته مغامراً جرّ لبنان الهزيل والمنطقة إلى الخراب تلبية للمصالح الإيرانية.

اختار نصرالله أن يتكلّم، لكنّ كلمته لم تكن على قدر التشويق الذي سبقها والدعاية التي بُثّت قبلها

لم يضغط على الزناد
اختار نصرالله أن يتكلّم، لكنّ كلمته لم تكن على قدر التشويق الذي سبقها والدعاية التي بُثّت قبلها. لم يضغط على الزناد ولم يعطِ الأمر بإطلاق صواريخه الدقيقة، لكنّه لم يُزِل كلّ الغموض وترك بعضه معلّقاً.
ربّما أبرز ما جاء في الكلمة ثلاثة أمور: أوّلها تأكيده أنّ الحزب هو طرف مساند وداعم للفلسطينيين وليس بديلاً عنهم في الدفاع عن قضيتهم، وكشفه أنّ عملية “طوفان الأقصى” كانت قراراً فلسطينياً صرفاً اتّخذته قيادة “كتائب القسام” ولم تستشِر به أحداً ولم تُعلم به الفصائل ولا “الحزب” ولا حتى إيران. ومع تشديده على أنّ هذا الأمر لم يزعج محور المقاومة ولا إيران ولم يغيّر شيئاً في تحالفهم ولا في دعم المحور للحركة الفلسطينية، إلا أنّ هذا الكشف يُظهر صدعاً في المحور وشعار “وحدة الساحات”، ولا سيما أنّ “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) حدثت بعد أيام قليلة من اجتماع فصائل المحور في بيروت الذي جمع قادة “الجهاد” و”حماس” و”الحزب” و”فيلق القدس” الإيراني لبحث الوضع الميداني عموماً، والفلسطيني خصوصاً. ما كشفه نصرالله عن عملية “القسام” يتطابق مع معلومات عدّة في هذا الشأن، لكنّ تأكيده على هذا المستوى وإن كان يعفي “حماس” من تهمة التابعية المطلقة للمحور، إلا أنّ من شأنه أيضاً أن يبعد طهران عن تحمّل أيّ مسؤولية لاحقة عن نتائج المعركة الدائرة حالياً، ويسحب الذرائع من دول عربية تتحجّج بالإصبع الإيراني للامتناع عن مساندة الفلسطينيين، وكذلك عدم تحميلها رفع مستوى التدخّل المحتمل لقوى أخرى في المحور في المعركة المقبلة.

مصير حماس
الأمر الثاني في الخطاب هو إدراجه عدم القضاء على حركة “حماس” ضمن الخطوط الحمر التي وضعها سقفاً لمشاركة الحزب المفتوحة في الحرب. وإذ كان نصرالله يدرك صعوبة خروج “حماس” من المعركة سالمة في ظلّ الهجوم الساحق عليها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً من الإسرائيليين والأميركيين والغربيين كلهم، فإنّه يريد الحفاظ عليها بالحدّ الأدنى وعدم شطبها من المعادلة الفلسطينية بشكل كامل، ذلك أنّ شطب “حماس” الموقع الفلسطيني والسنّي الأول في المحور هو خسارة صافية لإيران، وقد تتدحرج بعده الخسائر وتصل إلى الذروة بتطويق الحزب نفسه وعزله، وهو ما يعني إفقاد إيران دورها الإقليمي الذي عملت على بنائه 40 سنة.

فئة من الذين انتظروا الخطاب كانوا يريدون أن يضغط على الزناد لأنّهم غاضبون من حمام الدم الجاري في غزّة، ولا سيّما إبادة الأطفال

تكون حماية “حماس” أيضاً بالأمر الثالث المهمّ الذي توقّف عنده نصرالله، وهو تركيزه على الدور الأميركي الذي وصفه بالأساسي بعدما قال إنّ “طوفان الأقصى” بيّنت أنّ أميركا هي صاحبة القرار الفعلي وليس إسرائيل التي وصفها بأنّها هشّة وضعيفة واعتبرها مجرّد أداة تنفيذية. وبما أنّ مصلحة أميركا اليوم حصر المعركة بغزّة والاستفراد بـ”حماس”، حتى تؤسّس لمسار سياسي بدأت معالمه تتشكّل برسم مسار لحلّ فلسطيني على المقاس الأميركي الإسرائيلي الجديد وعدم إغضاب حلفائها العرب، فإنّ واشنطن تحاذر فتح حرب إقليمية قد تنتهي بعكس ما تشتهي سفنها، أو تشغلها عن حربها بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا وصراعها مع الصين. من هنا كان تحذير نصرالله من أنّ الحشود البحرية لن تمنع الحرب الإقليمية، وأنّ السبيل الوحيد لتجنّب حرب كهذه هو أن تضغط واشنطن على إسرائيل لوقف العدوان بلا قيد أو شرط أو الاكتفاء بشروط معقولة لا تتضمّن إنهاء “حماس”.
بالفعل فإنّ كلمات أميركية كثيرة، قبل الخطاب وبعده، بدأت تصدر وتشير إلى السعي إلى هدنة وليس إلى وقف الحرب. وعادة الهدنة القصيرة تجرّ إلى هدنة أطول إلا إذا حدث ما لم يكن في الحسبان. ولا شكّ أنّ الجوّ العربي المشحون والخوف من انفجار العنف والغضب قد يغذّي هذه المساعي.

إقرأ أيضاً: تحدّث السيّد ليخبرنا ما نعرفه؟

إذا كان الخطاب أبقى احتمال توسّع الحرب قائماً ولم يقفل أبوابها ولم يغلقها أيضاً، إلا أنّه أشار إلى أنّه على الرغم من التفكّك الإسرائيلي الواضح وتراجع القبضة الأميركية على المنطقة وتنامي قدرات المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل، فإنّ ميزان القوى بين الطرفين ما يزال مختلّاً، ولا سيما في ظلّ الفراع الذي أحدثه العرب بغيابهم عن فلسطين. وربّما ما يجري في غزّة اليوم يكون منطلقاً للبحث عن ملء هذا الفراغ الذي كلّما طال كانت الخسارة أكبر.

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…