أكثر من أسبوعين مرّا على عملية طوفان الأقصى، ومن يراقب منطقة الشرق الأوسط ومواقف وتصريحات المسؤولين على جانبي الحرب، يستنتج أنّ الإقليم مقبل على حرب موسعة. إذ وقفت دول المنطقة على حبل مشدود، بفعل تصريحات إسرائيلية تشد الحبل من طرف، وتصريحات إيرانية تشده من الطرف الآخر. يبدو أنّها معركة مستمرة، لكن مدروسة حتى الآن.
كلّ هذا يدفع إلى كتابة الكثير من الهوامش على دفتر “الطوفان”:
– أوّلها: الإشارة الواضحة إلى تراكم الخسائر لدى الإسرائيليين وانعدام القدرة على تحقيق أي هدف عسكري، والتعويض عن ذلك بمناورات كلامية وتصريحات واستعطاف دولي معطوف على التلويح دوماً بالدخول في مناورة برية. يأتي هذا في ظل استمرار الانقسام الإسرائيلي، ولا سيما بين الجيش والحكومة. إذ ان الجيش، الذي يعدّ خططاً عسكرية للهجوم على كلّ من غزة ولبنان، يلقى صدى من قبل رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، مع الإشارة إلى أن وجود نتانياهو على رأس الحكومة الإسرائيلية كرّس قاعدة أساسية، وهي نهاية عهد الجنرالات المقاتلين في اسرائيل، واتجاه تل أبيب إلى سياسة تحسين العلاقات السياسية والاقتصادية والاستثمارية، والتحوّل عن خوض الحرب. وهو ما يتلاقى أيضاً مع اهتمامات العنصر البشري داخل الجيش الإسرائيلي، الذي تحوّل بمعظمه إلى حالة شبيهة بالقوات المسلحة العربية، وفي لبنان أيضاً. إذ أصبح العنصر العسكري يلتحق بالجيش لتأمين نفسه في وظيفة مريحة ومربحة نسبياً، وانتظار قضاء سنوات خدمته إلى أن يحين موعد التقاعد، فيذهب إلى الاستثمار بمشاريع صغيرة، أو يغادر إسرائيل إلى أميركا أو اوروبا.
أكثر من أسبوعين مرّا على عملية طوفان الأقصى، ومن يراقب منطقة الشرق الأوسط ومواقف وتصريحات المسؤولين على جانبي الحرب، يستنتج أنّ الإقليم مقبل على حرب موسعة
– ثانيها: اكتساب حركة حماس تعاطف الشعب العربي نتيجة ما حققته عسكرياً في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل)، ولا سيما أن هذه الشعوب العربية كانت قد مرّت بإحباطات كثيرة أبرزها بعد انتهاء موجة الربيع إلى خريف قاتل.
لكن ما يجدر الانتباه إليه هو انعدام القدرة على الاستمرار بالارتكاس إلى التعايش مع حالة النشوة والنصر بدون تقديم أي رؤية سياسية. والأخيرة لا يمكن أن تخرج من الحضن العربي، باعتباره المدى الحيوي والوحيد لتحقيق المكاسب وتثبيتها. وعليه يمكن لحماس، كما لغيرها، الاستثمار في ما حققته سواعد مقاتليها، بالاستناد إلى دعم عسكري إيراني. في المقابل الذهاب إلى المدى العربي ذي الثقل السياسي، وصاحب “العدد” و”المدد” و”الثروة”، هو الطريق الوحيد لتقريش هذا الإنجاز العسكري في قالب سياسي قابل للحياة.
تواطؤ الغرب والفرس على العرب
– ثالثها: أظهرت الحرب، والتعاطي الغربي معها، ولا سيما الأميركي والأوروبي، شرخاً كبيراً بين الغرب والشرق، أي المجتمع العربي. في مقابل حرص كبير من هذا الغرب على حسن العلاقة مع إيران ومع اسرائيل، كأن هذا النوع من الصراع “الحضاري” أو صراع القوميات، يتلاقى مع بعضه وتتقاطع مصالحه في مواجهة “العرب”. وهو ما ظهر منذ اللحظة الأولى سواء:
– باعتبار حركة حماس مشابهة لتنظيم داعش، وبالتالي وسم عمليتها بأنها عملية “إرهابية” من تنظيم سنّي.
– أو بالتشديد الأميركي على تبرئة إيران مما جرى، وهذا كان واضحاً في كلام البيت الأبيض، ووزير الخارجية الأميركي والبنتاغون، في أن لا دلائل على أي علاقة لإيران بما جرى.
في مقابل تبرئة إيران، برز الحرص الأميركي الأوروبي على استمرار التواصل معها، وإن كان ذلك بلهجة “تصعيدية” نسبياً، عبر توجيه التحذيرات لها، مع علم مسبق بأن إيران ليست في وارد الانخراط في الحرب. فقابلت إيران هذه التحذيرات بتصريحات تصعيدية وعنيفة، جاءت على لسان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، لدى مرور أول أسبوع على عملية طوفان الأقصى. فمن بيروت هدّد عبد اللهيان ورعد بأن الإقليم كلّه سينفجر خلال ساعات في حال لم يتوقف إطلاق النار. وها قد مرّ أسبوعان بدون أي ردّ فعل حقيقي.
في هذا المجال، يقول أحد الخبثاء في السياسة إنّه لو كان لدى إيران أيّ تخوف جدّي بنسبة 1 في المئة من استعداد الأميركيين والإسرائيليين لتوجيه أي ضربة لها أو لدرّة تاج مشروعها، أي الحزب، لما لجأت إلى مثل هذه التهديدات. فالاطمئنان الإيراني إلى عدم رغبة الأميركيين بتوسيع الحرب، وعدم قدرة الإسرائيليين على الدخول في مواجهة مع الحزب، هو الذي دفع عبد اللهيان إلى إطلاق تصريحاته، ربطاً بالعمليات التي نفذها الحزب من جنوب لبنان ضد مواقع اسرائيلية وفق قواعد مدروسة بعناية، تحفظ لإيران صورة رعاية محور المقاومة ومقارعة إسرائيل، وتمنح الحزب فوزاً بدون دفع تكاليف، وتبقي القنوات الخلفية الإيرانية الأميركية عاملة بقوة.
أظهرت الحرب، والتعاطي الغربي معها، ولا سيما الأميركي والأوروبي، شرخاً كبيراً بين الغرب والشرق، أي المجتمع العربي
الحلف الإيرانيّ الأميركيّ “العميق”
– رابعها: أثبتت القنوات الخلفية بين طهران وواشنطن أنها أعمق من أي اهتزاز أو تصعيد في المنطقة. وهو ما عاد وانعكس في انقلاب عبد اللهيان على تصريحاته، إذ قال مساء الإثنين إن إيران تدعم الحقوق المشروعة للفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم وحقوقهم، كما أنها تدعمهم سياسياً وإعلامياً. وأردف عبد اللهيان أن إيران لا تريد فتح الجبهات وتوسيع الصراع في المنطقة. جاء الانقلاب بعد حدثين أساسيين، الأول هو رسالات نارية أطلقتها طهران عبر حلفائها ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا وبضرب صواريخ من اليمن. والثاني هو تغيّر في اللهجة الأميركية تجاه إيران جاء على لسان جون كيربي الذي اعتبر أن طهران تراقب وتشرف على عمليات اعتداء وكلائها في المنطقة على أهداف أميركية. التغير في اللهجة الأميركية هو الذي دفع عبد اللهيان إلى تغيير لهجته والتخفيف من حدة التصعيد.
الجديد هو رفع مجلس الأمن رسمياً الحظر الصاروخي عن طهران وفقاً للقرار 2231 الذي كان حدّد 18 تشرين الأوّل 2023 موعداً لرفعه. علماً أنّ تجديده يحتاج لقرار جديد من مجلس الأمن، وهو غير ممكن في ظلّ التموضع الروسي والصيني حالياً.
في حين أعلنت 45 دولة، بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، في بيان مشترك، التمسك بالحظر التسليحي على طهران إلى جانب قيام كل من واشنطن والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وأستراليا وكندا بفرض عقوبات جديدة تستهدف الملف النووي وبرنامجَي الصواريخ الباليستية والمسيّرات الإيرانية، وهو ما تسبب في انتقادات إيرانية وصينية.
– خامسها: أظهرت المواقف المتبادلة بين الإيرانيين والأميركيين أن الصراع والتفاوض يجري بينهما وسط ممارسة المزيد من المحاولات لإبعاد العرب عن القضية الفلسطينية. وهذا ينطلق من قاعدة أميركية ثابتة منذ سنوات مديدة، تتصل بتخويف العرب من المشروع الإيراني لدفعهم إلى اسرائيل، ولإبقاء المنطقة قائمة على توازنات الصراع العربي الإيراني. فيما تريد واشنطن الذهاب إلى اتفاق مع إيران، وإن لم يكن علنياً أو رسمياً، إلا أنّه يبقى قائماً موضوعياً.
أما بعد الاتفاق الإيراني السعودي وترييح الأجواء في المنطقة، فتعود واشنطن بعد عملية طوفان الأقصى إلى ارسال مدمراتها وبوارجها العسكرية إلى المنطقة، في محاولة لاستعراض القوة وإعادة إغراء العرب من خلال التلويح بإمكانية التصدي لإيران، وهو أمر لن يحدث، وإنما يندرج التلويح به في سياق إمساك العصا من الوسط فقط.
السعودية لا تحيد عن مشروعها ضمن رؤية 2030، التي تهدف إلى إرساء الاستقرار في المنطقة، وتوجيهها إلى مجالات التطوير والاستثمار، وهذا بلا شك لا يحصل إلا بتوفير استقرار في الإقليم، ولا سيما تجاه القضية الفلسطينية
ما هو موقف السعوديّة؟
– سادسها: الموقف العربي والسعودي تحديداً. ففي إحدى إطلالاته التي خصصها للحديث عن مسارات دعم المملكة العربية السعودية للقضية الفلسطينية، أكّد الأمير بندر بن سلطان، وهو أحد أبرز ثعالب السياسة السعودية، أنّ الطابع السعودي في السياسة يرتكز على العمل وليس على إطلاق المواقف والتصريحات. وهذا في الحقيقة من الثوابت السعودية، التي ترتكز على مدرسة سياسية غير مكيافيلية. وبالتالي لا يمكن رصد موقف سعودي ينطوي على تصعيد كلامي كبير أو تقديم ادعاءات تخالف أي ممارسة سياسية. وهذا يعود إلى جانب سوسيولوجي وسيكولوجي مستمد من “تقاليد العرب” الذين التزموا بما قالوا، وفاهوا بما أفقهوا، وثبتوا على ما تعهدوا وتوعدوا. لذلك لا يمكن إيجاد أي تصريح سعودي مشابه لتصريحات الإيرانيين التي تهدد وترعد، ولا يمكن رصد مواقف متناقضة لمسؤولين على غرار ما يعتاده العالم مع أميركا ومؤسساتها وإداراتها، التي غالباً ما تكون عبارة عن توزيع أدوار. كما لا يمكن ايجاد موقف سعودي مشابه لمواقف الإسرائيليين المتخبطة بنتيجة صراعات داخلية.
من أبرز الدلائل على السياسة السعودية المباشرة وعدم الركون إلى مبدأ المناورة، يمكن الاستناد إلى تجارب عديدة، من بينها لبنان الذي عندما تحوّل سياسياً وموضوعياً إلى خطّ لا يلتقي مع المشروع العربي، تركته السعودية لمصيره على قاعدة أنه عندما يجري الإصلاحات اللازمة فبإمكانه العودة والالتحاق بهذا المشروع. ومن دون ذلك ليست مضطرة إلى الذهاب إلى المناورات والاستنزاف السياسي أو المالي او الاقتصادي في سبيل استعادته.
انطلاقاً من هذه المقاربة، لا بد من الوصول إلى خلاصتين أساسيتين تتصلان بالموقفين العربي والسعودي مما يجري في غزة:
* أولاهما تظهر في التكامل والتعاون بين السعودية، مصر، قطر، وغالبية دول مجلس التعاون الخليجي في رفض التهجير، بالإضافة إلى إعادة التشديد على ضرورة احياء مشروع حلّ الدولتين وضمان حقوق الفلسطينيين.
* ثانيتهما أنّ السعودية لا تحيد عن مشروعها ضمن رؤية 2030، التي تهدف إلى إرساء الاستقرار في المنطقة، وتوجيهها إلى مجالات التطوير والاستثمار، وهذا بلا شك لا يحصل إلا بتوفير استقرار في الإقليم، ولا سيما تجاه القضية الفلسطينية.
– سابعاً والأهم: لا بد من تسجيل صوابية الدبلوماسية السعودية، ودقة معطياتها. من هنا تجدر العودة بالذاكرة إلى دعوة السعودية لرعاياها إلى مغادرة لبنان في شهر آب الفائت. ولم تكن تنبع هذه الدعوة من فراغ، بحسب معلومات “أساس”، بل كانت هناك معطيات عن تدريبات واستعدادات تجري على الساحة اللبنانية. وتزامن ذلك مع اشتباكات مخيم عين الحلوة، التي كانت في سياق صراع على النفوذ وتهيئة الأرضية لمواجهة أي تطورات ستشهدها المنطقة، سواء كانت سياسية أم عسكرية. بعد الدعوة السعودية، وقعت حادثة الكحالة، التي لا بد أنها كانت تتصل بالتدريبات وبالتطورات، وربما في إطار إعداد المشهد لما حصل في عملية طوفان الأقصى.
إقرأ أيضاً: حلّ الدولتين: شعبان لا مكان آخر يذهبان إليه
في الخلاصة: تتقدم المساعي الأميركية في سبيل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين في غزّة، مقابل سعي المحور الآخر إلى ثني اسرائيل عن اجتياح غزّة برّياً. فيما تستمر واشنطن باستعراضاتها العسكرية في المنطقة لردع حرب إقليمية لن تحصل ولا أحد يريدها. وتراهن طهران على مفاوضات إطلاق الرهائن، لأجل تخفيف حدة القصف الإسرائيلي والذهاب إلى مفاوضات سياسية تعلن بموجبها الانتصار في السياسة وفي الميدان، مقابل بحث واشنطن مع دول اوروبية عديدة عن مكسب لتل أبيب، فتعود المنطقة إلى الوقوع ما بين مطرقة إيرانية وسندان أميركي – اسرائيلي، وغياب عربي جديّ.