نظّمت إيران شبكة سرّيّة من “العملاء” على مستوى دبلوماسي عالٍ، بين عامَي 2014 و2015، لتلميع صورتها أمام النخبة الأميركية والعالمية، وذلك من خلال شبكة من الأكاديميين والباحثين المؤثّرين من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية، الذين أدارهم النظام الإيراني، بمعرفتهم وموافقتهم.
هؤلاء، الذين سنورد أسماءهم في السطور الآتية، أخذوا على عاتقهم كتابة مقالات في أكثر الصحف الأميركية والأوروبية انتشاراً وتأثيراً، وتعهّدوا بأن يكونوا “ضيوفاً” على مقالات أخرى، لصناعة “سردية” تستهدف صنّاع السياسات. وكان الرأس المتوّج على قمّة هذه الشبكة هو وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف.
نظّمت إيران شبكة سرّيّة من “العملاء” على مستوى دبلوماسي عالٍ، بين عامَي 2014 و2015، لتلميع صورتها أمام النخبة الأميركية والعالمية، وذلك من خلال شبكة من الأكاديميين والباحثين المؤثّرين من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية
أمّا أبرز أعضاء هذه الشبكة فهم ثلاثة من كبار مساعدي روبرت مالي، الممثّل الخاصّ لوزارة الخارجية الأميركية لشؤون إيران في إدارة جو بايدن، الذي تمّ وضعه في إجازة في حزيران الماضي بعد تعليق تصريحه الأمنيّ، لديهم “علاقة وثيقة” و”غير تقليدية” مع النظام الإيراني.
كشف هذه الشبكة الخبير في الأمن الدولي والباحث في “معهد واشنطن” جاي سولومون، في مقالٍ نشره موقع “سيمافور” الإخباري الأميركي، بالتزامن مع قناة “إيران إنترناشيونال” الفضائية الناطقة باللغة الفارسية، ومقرّها الرئيسي في لندن وذلك بعد الإطلاع على آلاف الرسائل البريدية التي تثبت تواصل وزارة الخارجية الإيرانية، من خلال مركزها البحثي الداخلي “معهد الدراسات السياسية والدولية”، مع عشر شخصيات “أساسية” في الولايات المتحدة الأميركية لإقناعهم بالانتساب إلى مشروع “خبراء إيران” بهدف “الترويج لمزايا الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن”، الذي تمّ توقيعه في تموز 2015.
التجنيد الأوّليّ في براغ
سعيد خطيب زاده، وهو دبلوماسي إيراني مقيم في برلين وأصبح المتحدّث باسم وزارة الخارجية فيما بعد، راسل مصطفى زهراني، رئيس “معهد الدراسات السياسية والدولية” في طهران، في 5 آذار 2014، قائلاً: “هذه المبادرة التي نطلق عليها اسم “مبادرة الخبراء الإيرانيين”، تضمّ مجموعة أساسية مكوّنة من 6 إلى 10 شخصيات إيرانية متميّزة من الجيل الثاني تنتمي الى مراكز فكر ومؤسّسات أكاديمية دولية رائدة، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة”.
ثمّ راسله في 11 آذار قائلاً إنّ “مبادرة “خبراء إيران” حصلت على دعم اثنين من الأكاديميين الأميركيين الشباب، وهما أريان طبطبائي ودينا اسفندياري، بعد اجتماع معهما في براغ”. وأضاف: “اتفقنا نحن الثلاثة على أن نكون النواة الأساسية للمبادرة.”
1- من هي طباطبائي؟
تشغل حالياً منصب رئيس مكتب مساعد وزير الدفاع الأميركي للعمليات الخاصة. وهو منصب يتطلّب الحصول على التصاريح الأمنيّة من الحكومة الأميركية.
كانت قبل ذلك مستشارةً رسميةً لفريق روبرت مالي للتفاوض النووي مع إيران بعد تولّي بايدن منصبه في عام 2021.
2- من هي إسفندياري؟
هي كبيرة مستشاري شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “مجموعة الأزمات الدولية”، وهي مؤسّسة فكرية رأسَها روبرت مالي بين 2018 و2021.
3- متى أُطلق المشروع؟
في 14 أيار 2014، في مؤتمر في فيينا، حيث جرت المفاوضات النووية الدولية، حضره ظريف وفريقه للتفاوض النووي وثمانية ممثّلين من مؤسّسات الفكر والرأي الغربية. وحاول ظريف خلاله أن يجد شخصية عامّة يمكنها الترويج لوجهات نظر إيران على الساحة الدولية بشأن القضية النووية.
كان طلبه “نسخة إيرانية من روبرت إينهورن”. وهو دبلوماسي في إدارة أوباما وخبير في مجال الانتشار النووي، كان ينشر بانتظام مقالات علمية حول البرنامج النووي الإيراني وشارك في الفعّاليات التي نظّمتها مراكز الفكر الأميركية والأوروبية.
4- متطوّع طباطبائيّ جديد
في إحدى الرسائل عرض عدنان طباطبائي، وهو أكاديمي ألماني حضر اجتماع فيينا، لا تجمعه أيّ صلة بأريان طبطبائي، على وزارة الخارجية الإيرانية كتابة مقالات نيابة عنها. وكتب إلى ظريف: “اقتراحنا أن نعمل كمجموعة على مقالات حول المحادثات الجارية، يمكن نشرها باسم مسؤول سابق بالطبع بعد قيامك أنت وفريقك بمراجعتها”.
ردّ عليه وزير الخارجية بعد أربعة أيام من خلال زهراني بأنّه وافق على الاقتراح وأوصى بنشر “المقالات أو مقالات الرأي الافتتاحية بأسماء شخصيات إيرانية وغير إيرانية من الخارج، بالإضافة إلى مسؤولين سابقين”.
تواصلت أريان طباطبائي، المسؤولة الحالية في البنتاغون، مع وزارة الخارجية الإيرانية مرّتين على الأقلّ قبل حضور أيّ فعّاليات سياسية متعلّقة بالبرنامج النووي
5- ظريف يحرّر “المقالات”
نجحت مبادرة “خبراء إيران” في تحقيق أحد أهدافها الأساسية، وهو نشر مقالات رأي وتحليلات في وسائل إعلام بارزة في الولايات المتحدة وأوروبا. وبعد أقلّ من شهر من اجتماع فيينا، أرسل علي واعظ، من “مجموعة الأزمات الدولية”، وهو مقرّب من روبرت مالي المدرج اسمه بين أعضاء المبادرة، مقالاً إلى زهراني حول “نزع فتيل الأزمة النووية”، لمراجعته قبل نشره باسم “معهد الدراسات السياسية والدولية في طهران”. وكتب باللغة الفارسية في 4 حزيران 2014: “إنّني أتطلّع إلى تعليقاتكم وملاحظاتكم”، مقترحاً وضع عنوان “المخاطر المفاهيمية للدبلوماسية النووية مع إيران”.
تُظهر رسائل البريد الإلكتروني أنّ زهراني أرسل المقال إلى وزير الخارجية ظريف، ونُشر بعد ذلك باثني عشر يوماً في مجلة “ناشيونال إنترست”، تحت عنوان “معضلات زائفة في محادثات إيران”، مع بعض التغييرات الطفيفة في الصياغة ليس من الواضح ما إذا كان ظريف هو الذي أجراها.
6- طباطبائي تطلب الإذن لزيارة إسرائيل
وفقاً لرسائل البريد الإلكتروني، تواصلت أريان طباطبائي، المسؤولة الحالية في البنتاغون، مع وزارة الخارجية الإيرانية مرّتين على الأقلّ قبل حضور أيّ فعّاليات سياسية متعلّقة بالبرنامج النووي. وكتبت إلى زهراني باللغة الفارسية في 27 حزيران 2014، تخبره أنّها التقت بالأمير السعودي تركي الفيصل، السفير السابق لدى الولايات المتحدة، الذي أعرب عن اهتمامه بالتعاون ودعاها إلى زيارة السعودية. وأبلغته أنّها دُعيت إلى حضور ورشة عمل حول البرنامج النووي الإيراني في جامعة بن غوريون في إسرائيل. وسألته عمّا إذا كان عليها قبول الدعوة. وأجاب زهراني في اليوم نفسه: “السعودية حالة جيّدة، لكنّ الحالة الثانية [إسرائيل] من الأفضل تجنّبها”. ولا يوجد أيّ دليل على أنّ طباطبائي ذهبت إلى المؤتمر في إسرائيل، على الرغم من أنّ كتبها وتقاريرها البحثية تشير إلى أنّها أجرت مقابلات مع عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين.
في رسالة أخرى، في 10 تموز 2014، أبلغت طباطبائي زهراني أنّه طُلب منها المثول أمام لجان متعدّدة في الكونغرس للإدلاء بشهادتها بشأن الاتفاق النووي إلى جانب اثنين من الأكاديميين في جامعة هارفرد “لديهما وجهات نظر متشدّدة ضدّ إيران”. وشاركت طباطبائي مع زهراني رابطاً لمقال نشرته في صحيفة “بوسطن غلوب” يوجز “الأساطير الخمس حول برنامج إيران النووي”، ويوضح سبب حاجة إيران إلى الطاقة النووية، ويسلّط الضوء على فتوى يُزعم أنّ المرشد الأعلى الإيراني آية الله خامنئي أصدرها بحظر تطوير الأسلحة النووية باعتبارها مخالفة للإسلام.
أثارت التقارير عن نفوذ النظام الإيراني في الحكومة ومراكز صنع القرار الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، غضب بعض نواب الكونغرس الأميركي
7- اختراق الجرائد الكبرى
رسائل البريد تفضح مفاخرة مسؤولين إيرانيين أمام رؤسائهم بنجاح الخطّة، وتعدادهم المرّات التي كتب فيها أكاديميو المبادرة أو تمّ الاستشهاد بهم في وسائل الإعلام خلال الأسبوع الذي تلا التوصّل إلى اتفاق نووي أوّلي بين طهران والقوى العالمية في 2 نيسان 2015 في لوزان بسويسرا. وتمّت مشاركة المقالات الإعلامية مع آخرين في وزارة الخارجية الإيرانية في طهران.
– في 14 نيسان، أرسل خطيب زاده، الذي صار لاحقاً المتحدّث باسم وزارة الخارجية، بريداً إلكترونياً إلى زهراني. والأخير أعاد إرساله إلى ظريف وأحد نواب وزير الخارجية في فريق التفاوض النووي، ماجد تخت روانجي، وأرفقه بـ10 مستندات منفصلة، يشير كلّ منها إلى البصمة الإعلامية لكلّ أكاديمي من أعضاء مبادرة “خبراء إيران”، ومن بينهم أريان طباطبائي، وعلي واعظ، ودينا إسفندياري، وجميعهم عملوا بشكل وثيق مع مالي على مدار العقد الماضي. وأظهرت القائمة التي شاركها خطيب زاده أنّه في أسبوع واحد نشرت أريان طباطبائي أربع مقالات، بما في ذلك في مجلّة “فورين بوليسي”، وأجرت مقابلات مع صحيفة “هافينغتون بوست” و”وكالة أنباء فارس الإيرانية”، المرتبطة بالحرس الثوري الإسلامي القويّ، والتي تدعم في الغالب آراء طهران بشأن المحادثات النووية. وكتبت مع دينا إسفندياري مقالاً مشتركاً نشرته مجلّة “ناشيونال إنترست”، قالتا فيه إنّ إيران “قويّة للغاية بحيث لا يمكن احتواؤها”، وإنّها “لا تحتاج إلى أيّ اتفاق لتمكينها وتعزيز موطئ قدمها في المنطقة”.
– كان علي واعظ أيضاً غزير الإنتاج في تواصله الإعلامي. وقد تمّ الاستشهاد بهذا المحلّل من مجموعة الأزمات الدولية في جميع الصحف الرئيسية في الولايات المتحدة تقريباً، بما في ذلك “نيويورك تايمز”، و”وول ستريت جورنال”، و”واشنطن بوست”، و”لوس أنجلوس تايمز”، منذ انطلاق مبادرة “خبراء إيران” في آذار 2014 حتى الانتهاء من الاتفاق النووي الإيراني في تموز 2015.
8- الغضب الأميركيّ
أثارت التقارير عن نفوذ النظام الإيراني في الحكومة ومراكز صنع القرار الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، غضب بعض نواب الكونغرس الأميركي.
– وصف تيد كروز، عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، ما تمّ الكشف عنه بأنّه “مقلق بشكل لا يوصف”، ودعا إلى “إنهاء المفاوضات السرّية مع إيران”.
إقرأ أيضاً: مارتن إنديك: إحياء أوسلو ممكن في غياب نتانياهو وعباس
– كتب عضو الكونغرس الجمهوري، جيمس بانكس، على منصّة “إكس”: “تحذير الجمهوريين من أنّ محاولة إدارة بايدن اليائسة لإحياء الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما هي هدية للنظام الإيراني لم يكن مبالغاً فيه”. وطلب إلغاء التصاريح الأمنية للمسؤولين المرتبطين برسائل البريد الإلكتروني المسرّبة في انتظار التحقيق في الادّعاءات.
– تساءل رئيس لجنة القوات المسلّحة في مجلس النواب الأميركي ورئيس اللجنة الفرعية للاستخبارات العسكرية في رسالة مشتركة إلى وزير الدفاع: “هل كانت وزارة الدفاع على علم بوجود طباطبائي في شبكات النفوذ المدعومة من قبل النظام الإيراني؟”. وأمهلا البنتاغون أسبوعاً للردّ على هذا السؤال و6 أسئلة أخرى. لكن من المؤكّد أنّ رسالتهما ستجلب المزيد من المشكلات لإدارة بايدن، التي تعرّضت في السابق لضغوط لتوضيح أسباب إيقاف روبرت مالي.
يأتي هذا في حين تتعرّض سياسات بايدن تجاه إيران لانتقادات شديدة، خاصة بعد الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المحتجَزة مقابل إطلاق سراح 5 رهائن إيرانيين أميركيين. وينتقد العديد من الخبراء نهج حكومة بايدن تجاه إيران، ويقولون إنّ الحكومة الإيرانية أصبحت أكثر جرأة من أيّ وقت مضى بسبب هذا النهج المُتساهل.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا