يبقى نبيه برّي في سباق مع الزمن. هو الذي يريده مهما ابتعد أو تقادم أن يدور ويعود إليه. فوق العمر، وفوق التجربة، وعلى تلال من حروب ومعارك، طوتها شيبة وهيبة. لا يبدو الرجل أنّه يهاب الزمن، بل يصرّ على التسابق، فما يزال العمر بالنسبة إليه مثلما مضى. وهو الذي لا يريد لماضيه أن يمضي، بل يبقيه حاضراً في كلّ مناسبة، ظرف أو استحقاق. يسابق الاستحقاقات، في البحث عن مخارج وتسويات. أخيراً، كان قد استبق الفرنسيين، والأميركيين، وسابق الاتفاق الإيراني السعودي، كما تسابق في السابق مع بيوتات تقليدية وزعامات جنوبية وبقاعية وبيروتية، وقارعها إلى أن احتلّ المشهد والذاكرة.
علامة فارقة في السياسة
في قراءة موضوعية، فإنّ برّي علامة فارقة في السياسة اللبنانية. لم يأتِ الرجل من بيت سياسي، ولا من زعامة تاريخية. هو ابن الأرض، ومن أديم تبغ الجنوب الذي تخمّر بين شفتيه، في صور قديمة تعود لحقبة الحرب. تلك الحرب التي خاضها وأصيب فيها، لكنّه خرج منها صاحب عزيمة، مطلقاً عهد “الشيعية السياسية” في بنية الدولة والنظام، وباسطاً النفوذ السياسي والإداري بالانطلاق من توازنات البلاد وتركيبتها، في تقاطعات سياسية وحزبية مع طوائف ومذاهب ولاعبين. استقرّ على عرش رئاسة المجلس منذ عام 1992، وهذا الأمر هو استثناء أيضاً لم يتحقّق لغيره من أبناء الطائفة الشيعية، هناك حيث تكمن نباهته، وهو البرّي الذي يقول عن نفسه “لا يحلو على الرصّ”، لكنه يجوهر في المعارك والأزمات.
يبقى نبيه برّي في سباق مع الزمن. هو الذي يريده مهما ابتعد أو تقادم أن يدور ويعود إليه. فوق العمر، وفوق التجربة، وعلى تلال من حروب ومعارك، طوتها شيبة وهيبة
لطالما خرجت حلول لتعقيدات من بين يديه. لطالما عرف كيف يوازن بين حلفائه وخصومه، فبقي حاجة للجميع، في التحاور مع الحزب، أو في الخلاف معه. والرجل لا يحيد عن خطّ استراتيجي عربي، من النجف إلى الرياض. وهو المتمسّك بعروبة لبنان وعروبة المرجعية النجفيّة.
على مدار جلسات نيابية متعدّدة، عبّر برّي عن حالة من القرف نتجت عن بقائه فوق تجربته مع قامات وهامات، من موسى الصدر إلى كمال جنبلاط، ومن حافظ الأسد إلى رفيق الحريري، بالإضافة إلى علاقة لا تنتهي مع وليد جنبلاط. يفتقد الرجل للّعبة السياسية وللّاعبين الكبار الذين من بينهم كبار المشرّعين والسياسيين. كان في خصامهم شرف، وفي اللعبة السياسية متعة على الرغم من الخلاف، وفيها حكايات من سرعة البديهة وإبحار في شعر ونثر وأدب وتاريخ كانت تغني السياسة وتسمنها. وهذا ما يفتقده في لعبة الشعبوية والاستعراضات السياسية والإعلامية.
لا حلول من دونه
يوقن سياسيون، دبلوماسيون، وغيرهم من مسؤولين، أن لا حلول تُجترَح من خارج يديه. كثر يريدون سحب خيطانها من بين أصابعه، لكنّه يعرف كيف يستعيدها. يعرف نبيه برّي متى يقدم ومتى يحجم. لكنّه يصطدم برفض مستدام، بدون تقديم البدائل. في سباقه مع الزمن، كان قد اقترح الحوار قبل أن يقترحه الفرنسيون، وقبل أن تؤيّده باربارا ليف خلال لقائها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. لكنّ حواره رُفِضَ في الداخل. وكان قد استبق الاتفاق الإيراني السعودي بالتمهيد له، فدعا إلى حوار في حينها إعداداً للأرضية ريثما يأتي، لكنّ مبادرته رُفضت وأُسقطت أيضاً. وصل به الأمر أن يقول إنّه “لم يعد لديه شيء جديد”، والمشكلة لدى الموارنة وفيما بينهم.
إقرأ أيضاً: الحزب: قطر تسوّق لسلّة أسماء!
في فترة ما بعد اتفاق الطائف، تمكّن برّي من دوزنة العلاقات بين القوى السياسية التي تُعتبر مستفيدة من النظام، سياسياً، مالياً، وإدارياً، من خلال تحقيق توازن القوى داخل بنية النظام. لكن ما بعد عام 2016، ومع دخول التيار الوطني الحرّ لاعباً أساسياً في التحكّم بالحصص، لم يتمكّن من توفير هذا التوازن. اليوم في ظلّ الفراغ الرئاسي، وبعد ثورة 17 تشرين، وفي ظلّ الانقسام القائم حالياً، يصطدم برّي بانعدام القدرة على توفير المخارج. على الرغم من أنّه يقترحها ويبادر باتجاهها، لكنّ البعض يصرّ على عرقلتها أو منع تحقّقها. هناك قناعة تؤكّد أنّ الرجل يبقى الملاذ الوحيد للباحثين عن حلّ أو تسوية. وحده القادر على إقناع الحزب، ووحده القادر على محاورته. لا بدّ للبعض أن يستشعروا ندماً قد يكون مبكراً وقد يكون متأخّراً، فلا بدّ من نبيه برّي وإن غاب الحوار.