المبادرة المصرية التي تلقّتها الأطراف المباشرة في حرب غزة، واطّلع عليها كلّ المعنيين… أميركا وقطر وعلى نحو ما السلطة الفلسطينية في رام الله.
هذه المبادرة وكما كان متوقّعاً لم تحظَ بموافقة الطرفين المباشرين في الحرب، إلا أنّ الإيجابي أنّها دُرست كورقة تفاوضية ملأت الفراغ السياسي الذي اكتنف الحرب، والذي منذ الهدنة الأولى تركت الأمور إلى الميدان، ليشهد مقتلة تفوق في جسامتها كلّ ما سبقها، وتقابلها مقاومة شرسة شديدة الفاعلية، أدّت إلى التأثير المباشر على إسرائيل من داخلها، وهو ما ضاعف الأصوات التي تطالب بوقف الحرب وخروج إسرائيل من “مستنقع غزة”، خصوصاً بعدما بدا للغالبية العظمى من صنّاع الرأي في إسرائيل وحتى في أميركا والعالم، استحالة نجاح الحرب مهما اشتدّت واتّسعت في تحقيق الأهداف التي حُدّدت لها منذ اليوم الأول لنشوبها.
واضعو المبادرة أو دعنا نقُل “الورقة التفاوضية” لم يتوقّعوا ترحيباً تلقائياً بها، خصوصاً أنّ طرفَيْ الحرب يتعاملان مع جمهورهم على أنّهم منتصرون فيها حتماً، فلماذا إذاً الذهاب إلى حلّ وسط أو إلى تسوية تنتقص من الأهداف والمطالب لدى كلّ طرف؟
المبادرة المصرية التي تلقّتها الأطراف المباشرة في حرب غزة، واطّلع عليها كلّ المعنيين… أميركا وقطر وعلى نحو ما السلطة الفلسطينية في رام الله
تاريخ القاهرة في غزّة
القاهرة الممسكة تاريخيّاً وجغرافيّاً وعمليّاً بخيوط غزة، وصاحبة الخبرة الاستثنائية في معالجة شؤونها في حالة الهدوء والاشتعال، تحتلّ موقعاً فريداً في جغرافية الأزمات والحلول، فهي عاصمة العمل على إنهاء الانقسام، وعاصمة التهدئة حيال الاشتعالات المتتالية على غزة، وتلعب دورها تحت مصطلح الوسيط، إلا أنّها ليست محايدة أو كوسيط تقليدي، بل هي معنيّة مباشرة بكلّ ما يجري في غزة تخصيصاً ضمن عنايتها المباشرة بالقضية الفلسطينية التي هي في قلب معادلة الأمن القومي المصري، وهذا إلى جانب ما يحمل من مزايا إلا أنّه محفوف بالمحاذير، وهذا بعضٌ منها:
– الوقوف على حافة النار، ولا ضمانات أكيدة لدى مصر بأن لا تمتدّ إليها، ذلك أنّ عودة الجيش الإسرائيلي، وهو في حال حرب، إلى أقرب نقاط التماسّ مع مصر “رفح وخط فيلادلفي” الفاصل بين غزة وسيناء، وإدخال تلك المنطقة الحسّاسة في الخطط العسكرية الإسرائيلية، لا بدّ بديهياً ومنطقياً من أن يُقلق مصر إن لم نقُل أكثر من ذلك.
– التهجير، سواء وُصف بالطوعي أو القسري. فمصر الدولة والسيادة والمجتمع والجيش، تنظر إلى هذه المسألة بجدّية وتحوّط، فلا اطمئنان لدى صانع القرار في مصر للإعلانات الأميركية المعارضة للتهجير، ذلك أنّ هذه المسألة بالذات وإن لم تعلن إسرائيل عنها رسمياً وبصورة مباشرة تظلّ هاجساً يداعب مخيّلة الإسرائيليين ومخطّطاتهم البعيدة المدى، والأمر في هذه الحالة يتعلّق بالفرص.
مصر التي أدّت أوّل تطوّر دراماتيكي في العلاقة مع إسرائيل، وهو السلام الرسمي، تواجه تحدّياً مبعثه انفلات إسرائيل في سياساتها المبتعدة كلّياً عن مسار السلام الذي بدأته مصر. فهي الآن ترى مصالحها ومصالح أشقّائها العرب مهدّدة بهذا الابتعاد الإسرائيلي عن المسار المأمول نحو عكسه تماماً، أي أنّ إسرائيل تستثمر صلاتها المستجدّة ليس مع مصر وحدها، وإنّما مع كلّ من أقام علاقات معها باتجاه المضيّ في سياساتها الخاصة التي يبدو السلام مع الفلسطينيين وباقي العرب مستبعداً منها في البرامج والقرارات والسلوك.
المبادرة المصرية في الميدان
كلّ هذه الاعتبارات وكلّ ما يمكن أن يوصف بالمزايا والمحاذير في العلاقة مع إسرائيل موضوعة على مائدة صنّاع القرار في مصر.
من هنا ينبغي أن تُقوَّم المبادرة كورقة أوّلية تفاوضية لا بدّ أن يكون لتطوّرات الأوضاع في الميدان الدور الأساس في تطبيقها كلّياً أو جزئياً كما هي في صيغتها الحالية أو بعد تعديلات متّفق عليها.
هي ليست مبادرة وسيط محايد بل هي عمل سياسي يتعيّن على إسرائيل المتورّطة في حرب صعبة أن تنظر إليها بجدّية أكثر انطلاقاً من حاجتها أوّلاً إلى وقف النزف الذي يتدفّق من جسدها المنهك، وكذلك من الحرص على أن لا تصل نارها المجنونة إلى مصر وباقي دول الإقليم القريبة والبعيدة.
إقرأ أيضاً: الفلسطينيّون يستحقّون أكثر ممّا يطلبون
أخيراً، المبادرة المصرية قابلة للتعديل، ويبدو أنّها عُدّلت، ولكي نرى الخلاصة العملية لها فلا بدّ من أن نرى الأمور أوّلاً كيف تُحسم في الميدان.