أكثر قضية عرفتها البشرية وجرت محاولات لتسويتها هي القضية الفلسطينية. فمنذ نشأتها كانت هناك تسوية التقسيم في 1947، ومنذ ذلك الوقت، أي منذ عهد المؤسّس بن غوريون، إلى عهد المدمّر بنيامين نتانياهو حدثت تسويات نجحت مع العرب وآخرها سلسلة اتفاقات ابراهام للتطبيع في السنوات الأخيرة، وأخرى حدثت مع الفلسطينيين وآخرها مدريد (1991) وأوسلو (1993).
نجحت في البدايات وأخفقت في النهايات. أنتجت أوسلو سلطة فلسطينية ينشغل العالم الآن بكيفية إبقائها على قيد الحياة، وفي ظلّها وقعت حروب هي الأشرس منذ بداية القضية الفلسطينية.
يصرّ الأميركيون على مواصلة الإمساك بالخيوط، على الرغم من مسؤوليّتهم المباشرة عن فشل محاولة أوسلو الأخيرة التي إن بدأت المحادثات بشأنها من وراء ظهرهم، إلا إنّهم تولّوا دور القابلة في ولادتها، ووليّ الأمر في رعايتها، والمقاول الوحيد في معالجة انتكاساتها وانهياراتها.
في العهد الأميركي سال دم كثير ودمار واسع، وابتعاد فلكي عن التسوية، حتى إنّ أميركا استولت على أفق ومسار الحرب الراهنة، بدخولها المباشر إلى أرضها، في اندماج أعمق من أيّ وقت مضى مع إسرائيل، وقد يصل الأمر إلى ما يتجاوز التسليح والتبنّي إلى المشاركة الميدانية، ذلك أنّ حاملة الطائرات جيرالد فورد وما سيأتي بعدها، يتجاوز وجودها حالة الضغط إلى حالة المشاركة.
نجحت في البدايات وأخفقت في النهايات. أنتجت أوسلو سلطة فلسطينية ينشغل العالم الآن بكيفية إبقائها على قيد الحياة، وفي ظلّها وقعت حروب هي الأشرس منذ بداية القضية الفلسطينية
ماذا بعد حرب غزّة؟
حين تضع حرب غزّة أوزارها، وأيّاً كانت النتيجة التي ستسفر عنها، ماذا ستفعل أميركا؟ هل تعاود العمل على أولوياتها القديمة والعقيمة، أم تُدخل تعديلات ذات شأن عليها؟
الأولويات القديمة الممارَسة قبل حرب غزّة الأخيرة هي التالية:
– تهدئة الأوضاع الفلسطينية في غزّة والضفّة، عبر الوسطاء والتسهيلات واللقاءات مثل “العقبة وشرم الشيخ والعلمين وغيرها”.
– ثمّ ترجيح خيار الحلول الاقتصادية على تلك السياسية المستبعَدة وفق مبرّرَيْ الصعوبة وعدم الجاهزية الإسرائيلية والفلسطينية لذلك!
– ثم تغليف هذا الحلّ بورقة سوليفان رقيقة هي حلّ الدولتين، “والاستعارة” لا تقصد مستشار الأمن القومي الأميركي.
– وأخيراً ربط الأمر كلّه بنجاح عملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل.
كان يمكن للفلسطينيين ومن يؤازرهم ابتلاع هذه البضاعة لو أنّها ترافقت مع منع إسرائيل من القيام بإجراءاتها الأحاديّة، وهي الاستيطان والاستيلاء على مزيد من الأرض والمداهمات التي تأكل على نحو يكاد يكون يومياً أرواح الشباب الفلسطيني، والسباق مع الزمن لتهويد القدس بحيث لا يبقى منها ما يمكن التفاوض عليه.
الأولويات الأميركية هذه، التي لا يستفيد منها الفلسطينيون بفعل الوجود المباشر على أرض الأزمة بالحدّ الأدنى، لا تُرى نتائج ملموسة لها غير تشريع وتفعيل المخطّطات الإسرائيلية القائمة على أساس أنّ الشأن الفلسطيني يُختصر بكون ملايين الفلسطينيين مجرّد سكّان يعيشون على الهبات والتسهيلات، ولا يحقّ لهم أن يحلموا بدولة وسيادة وهويّة وطنية.
ما بعد حرب غزّة، ومهما كانت نتائجها، هل يواصل الأميركيون رعايتهم للحالة الإسرائيلية الفلسطينية، وفق أولويات ما قبل الحرب التي أتت بحاملة الطائرات جيرالد فورد، وتحذير الجميع من مغبّة التدخّل؟
هل هناك فرصة للتسوية؟
يرى المتفائلون فرصة لتسوية أكثر معقولية ربّما يفكّر الأميركيون فيها، والمتشائمون يرون مناخاً مؤاتياً للتصفية، إذا ما جاءت نتائج حرب غزّة على هوى الإسرائيليين، والواقعيون ينتظرون أشياء كثيرة كي تتّضح الرؤية، منها مثلاً انتهاء سطوة اليمين المتشدّد على السياسة والقرار في إسرائيل، وبلورة التطبيع مع السعودية وتحديد حصّة الفلسطينيين منه.
إقرأ أيضاً: هل هي حرب التسوية أم التصفية؟(1)
ثمّ أخيراً وليس آخِراً.. أيّ إدارة ستأتي إلى البيت الأبيض؟
كلّها أسئلة تحدّد ما إذا كان هنالك محاولة جديدة لتسوية من دون الذهاب بعيداً في اعتبارها مُرضية للفلسطينيين!
في زمن الاشتعال كلّ الترتيبات التالية تظلّ في حالة انتظار، والتوقّعات تظلّ مجرّد احتمالات.
إلا أنّ المؤكّد وبالتجربة أنّ مواصلة أميركا للقديم لن يُنتج إلّا حروباً جديدة، وليراجعوا الملفّ وسيجدون فيه كلّ القرائن الدامغة.