جيزيل خوري وسمير قصير وعصام عبد الله: قتلُ الصحافيّين

مدة القراءة 5 د


يا لعدالة “التواريخ”. ترحل جيزيل خوري بعد ساعات من رحيل المصوّر في وكالة رويترز، الزميل عصام عبد الله، في قصف إسرائيلي على جنوب لبنان استهدف صحافيّين، كأن لنتذكّر أن ليست إسرائيل وحدها من تقتل صحافيين في بلادنا.
أغضبت البعض هذه المقارنة، بعدما نشرتها في صفحاتي على فيسبوك وتويتر وإنستاغرام. على الرغم من أنّها لم تتّهم أحداً بالمباشر، كانت تشير إلى أنّ الصحافيين هم الوحيدون الذين يُجمع “المسلّحون” على قتلهم، في السلم كما في الحرب، على الحدود و”في الداخل” لأنّهم يفضحون “القتلة”، أيّاً كانوا، بالصورة أو الكلمة، بالفكرة أو النقل المباشر، من كامل مروّة ونسيب المتني وسليم اللوزي، إلى شيرين أبو عاقلة، ومن غسان كنفاني وناجي العلي، ومن مصطفى جحا إلى ناهض حتّر… إلى 11 صحافياً قتلتهم إسرائيل في غزّة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأوّل)، وليس انتهاءً بـ”القتل الرقمي” الذي تمارسه منصّات التواصل الاجتماعي، فتقفل حسابات المتضامنين مع فلسطين، وتمنع انتشار التعليقات المناصرة للقضية الفلسطينية.
وجيزيل خوري هي زوجة سمير قصير، الكاتب الذي اغتيل بعبوة ناسفة تحت مقعد سيارته أمام منزله في الأشرفية، في 2 حزيران 2005، في سياق سلسلة اغتيالات لرموز “انتفاضة الاستقلال”. تلك الانتفاضة التي جمعت أكثر من مليون لبناني في 14 آذار 2005، معارضين للوجود السوري، وذلك كردّة فعل بوجه القوّات السورية وحلفائها في لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005. سلسلة اغتيالات أتت لاحقاً على جبران تويني، وظلّت تطلّ برأسها حتى أخذت لقمان سليم في 4 شباط 2021.
مناسبة المقارنة هي موت جيزيل خوري، بعد معاناة مع مرض السرطان، وذلك بعد ساعات قليلة من مقتل عصام عبد الله في جنوب لبنان. وهي مصادفة ومفارقة أيقظت طيف المجازر في ذاكرة كثيرين. لأنّ جيزيل باتت في العقل الجماعي اللبناني الصورة الباقية من سمير قصير، خصوصاً أنّها أنشأت وتدير “مؤسسة سمير قصير SKEYES”، وترجمتها “عيون سمير قصير”، التي توثّق الانتهاكات بحقّ الصحافيين في لبنان والمنطقة.

يا لعدالة “التواريخ”. ترحل جيزيل خوري بعد ساعات من رحيل المصوّر في وكالة رويترز، الزميل عصام عبد الله، في قصف إسرائيلي على جنوب لبنان استهدف صحافيّين، كأن لنتذكّر أن ليست إسرائيل وحدها من تقتل صحافيين في بلادنا

والموتُ بالموت يُذكر، والقتلُ بالقتل يُذكر.
بالطبع ليس الوقت لنكء الجراح، لكنّه جرحٌ مفتوح، ما دام قتل الصحافيين، المسالمين، الذين لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، في الداخل اللبناني، مستمرّاً منذ سمير قصير إلى لقمان سليم في 4 شباط 2021، قبل عامين فقط… وكثيرون من الصحافيين، بمن فيهم كاتب هذه السطور، تعرّضوا لتهديدات لا تنقطع. فكيف لا يذكّرنا موت جيزيل بقتل سمير؟ وكيف يمكن ألّا نخلط الحزن بالحزن، على موت جيزيل وسمير وعصام؟

“السلاح”… “في الداخل”
زملاء قريبون من حزب فاعل عاتبوني. إحداهنّ ادّعت أنّ المقارنة بين قتل سمير قصير وقتل عصام عبد الله “ليس وقتها”، وأنّه “تمييع” لمقتله بنيران إسرائيلية، تلك النيران التي لن تجد لبنانياً واحداً لا يقف بوجهها اليوم.
لكنّ هذا العتاب يُخفي، عن حكمة أو عن خبث، حقيقة لا غبار عليها، وهي أنّ مشكلة اللبنانيين لم تكن يوماً مع أيّ سلاح يواجه إسرائيل. وإن لم يرَ البعض أنّ هذه النقطة مهمّة اليوم، إلا أنّها “الأهمّ”. لكلّ معارض لنظام الحكم اللبناني، الذي يديره “السلاح” بشكل أو بآخر، وفق ما يُعرَف بنظام “المافيا والميليشيا”، المافيا التي تشرّع السلاح، والميليشيا التي تحمي الفاسدين.
إسرائيل عدوّ لبنان، وكلّ من يقاتلها على الأرض اللبنانية، من اللبنانيين، له الحقّ في امتشاق السلاح والدفاع عن الأرض. لكن ليس لأحد غير لبناني هذا الحقّ. فقد انتهى زمن “فتح لاند”. وكلّ غير لبناني يقاتل على أرضنا اليوم وأمس وغداً على الدولة والحكومة أن تمنعه.
ينطبق هذا على العمليات العسكرية التي شنّها الحزب في الأراضي اللبنانية المحتلّة، من شبعا ومزارعها إلى غيرها من النقاط الحدودية المختلَف عليها. هذه أراضٍ لبنانية بلا جدال، والدفاع عنها متروك من الدولة لتنظيمات المقاومة، بموافقة الحكومة ورئيسها، ذلك الذي حين سألته مذيعة على قناة “الجديد” عمّا إذا كانت لحكومته “كلمة” في قرار الحرب والسلم، فأجابها من دون خجل سائلاً: “هل تتكلّمين معي من لبنان؟ أو أنت في جزر كاراساو؟ أنت في لبنان وتعرفين الوضع، لنكن واقعيين، هل أقول بما لديّ إنّ قرار الحرب في يد الحكومة اللبنانية؟ أين أنت؟ وين قاعدة؟”.

إقرأ أيضاً: من قتل طلال سلمان؟

الصحافيّون… والحرب المفتوحة
إذا كان رئيس الحكومة “بالدفّ ضارباً”، فـ”فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمِ الرَّقصُ”. لا جدال. اليوم حرب، وغداً نكمل خلافاتنا. لكن في الحرب، يقتل العدوّ خيرة الصحافيين، ويجرح منهم صحافيات ومراسلات ومراسلين ومصوّرين. فماذا عن السلم؟
نحن الصحافيين، على الحدود مثل عصام عبد الله، أو في الداخل مثل سمير قصير، ضحايا هذا الجنون المتطرّف، وقتَلَتُنا لا يحاسبُهم أحدٌ، من الخيام إلى الأشرفية.
فتحيّة لجيزيل التي ظلّت حتى لحظاتها الأخيرة تذكّرنا بسمير، وكلّ الحبّ لعصام: فـ”كلّنا في الهمِّ شرقُ”.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…