المصارف: “كفى شعبويّة”… ومنصوري: “بدنا نروق!”

مدة القراءة 7 د


تبدي أوساط مصرفية ضالعة بملفّ الأزمة وتفاصيل الخلاف مع الحكومة حول توزيع الخسائر، توجّسها وقلقها من مواقف حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري الأخيرة، فتعتبر أنّه يظهر سلوكاً لا يخلو من “مشحات” شعبوية.
تعترف هذه الأوساط بأنّ منصوري اتّخذ موقفاً “شجاعاً وممتازاً” حينما رفض استدانة الدولة من التوظيفات الإلزامية، إذ يحمي بذلك أموال المودعين ويمارس ما أمكن من الضغوط على السلطة من أجل السير قدماً في الإصلاح، واعتمادها على ذاتها، لا على أموال المصرف المركزي، في البحث عن مخارج وحلول.
لكن في المقابل لا تخفي تلك الأوساط حذرها وتعتبر أنّ منصوري في بعض المواقف يحاول “إسماع كلّ طرف ما يحبّ أن يسمعه”.

المصارف لمنصوري: أين أموالنا؟
المأخذ الأوّل الذي تسجّله المصارف على الحاكم هو عدم التطرّق منذ تولّيه الحاكمية إلى واجبات مصرف لبنان تجاه المصارف. فتقول إنّ ما لها من أموال لدى “المركزي” على شكل توظيفات يبلغ قرابة 83 مليار دولار، أي ديون مستحقّة للمصارف لدى مصرف لبنان، وحتى اللحظة لم يخبرها المركزي عن الآليّة التي يتطلّع بها إلى إعادة هذه الأموال للقطاع، خصوصاً أنّ ما بقي لدى المصارف من ودائع للمودعين اليوم على السجّلات هو قرابة 93 مليار دولار فقط. وهذا يعني أنّ المصارف إن استعادت أموالها من المصرف المركزي أو أقلّه أخبرها عن خطّته لإعادتها، تكون بذلك قد باتت على علم بمصير ما يصل إلى 90% من الودائع.
تعتبر الأوساط نفسها أنّ منصوري يتحاشى فتح باب النقاش في تلك الأموال حتى الآن، بل يطلق تصريحات بين الحين والآخر من صنف أنّ استعادة تلك الودائع ليست أمراً مستحيلاً، رابطاً ذلك بـ”تنفيذ إصلاحات طال انتظارها لسنوات”، ولم ترَ النور حتى اليوم.
لهذا تعتبر الأوساط أنّ المركزي مطالَب بأن يبادر إلى “فتح باب الحوار مع المصارف”، من أجل بحث تلك المعضلة، والكفّ عن “بيع” المواقف على حسابها.

تبدي أوساط مصرفية ضالعة بملفّ الأزمة وتفاصيل الخلاف مع الحكومة حول توزيع الخسائر، توجّسها وقلقها من مواقف حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري الأخيرة، فتعتبر أنّه يظهر سلوكاً لا يخلو من “مشحات” شعبوية”

وهْم الـ1,000 دولار شهريّاً
أمّا مأخذ المصارف الثاني على منصوري فيكمن في حديثه عن رفع الدفعة الشهرية بموجب التعميم 158. فقد أعلن منصوري في أكثر من مناسبة وأمام أكثر من طرف، أنّه يسعى بالتعاون مع المجلس المركزي في مصرف لبنان إلى رفع هذا المبلغ الشهري من 400 (للمستفيدين القدماء) أو 300 دولار (للمستفيدين الجدد) إلى 600 أو 1,000 دولار، وهو ما لا يمكنه، بنظرها، فعله لسببين:
1- لأنّ مصرف لبنان لا يملك المبالغ الكافية لدفعها، باعتبار أنّ الاتفاق بين المصارف والمصرف المركزي خلال ولاية رياض سلامة قضى بتقاسم مبلغ الـ400 بينهما مناصفة (المصارف 200$ والمركزي 200$ من التوظيفات)، وبالتالي ليست مسؤولية المصارف منفردة، بل مسؤولية مشتركة بينهما.
2- لأنّ من غير المنطقي صرف ما بقي من التوظيفات الآن، أي قبل إقرار قانون هيكلة المصارف و”الكابيتال كونترول”، لأنّ التوظيفات هي “الطلقة الأخيرة” لدى مصرف لبنان من أجل النهوض بالاقتصاد، ولا يمكن هدر تلك “الطلقة” بطريقة عشوائية كتلك.
لذلك دفع 600 أو 1,000 دولار شهرياً هو “حقّ للمودعين، وهو أمر لا بدّ أن يحصل، لكن حينما تبدأ الحلول بالظهور وليس في هذه الظروف”.

موازنة 2024… “إعلان إفلاس”
حول المأخذ الثالث، تعتبر المصارف أنّ من بين واجبات المصرف المركزي الحفاظ على القطاع المصرفي وليس الحفاظ على المودعين فحسب. ولهذا تعتبر أنّ المطلوب من الحاكم هو ممارسة الضغوط اللازمة على السلطة والحكومة في ظلّ الاستحقاقات الداهمة، ومنها مثلاً قانون موازنة العام 2024 المقوّمة على سعر الصرف المعوّم (89,000 ليرة وربّما أكثر).
تنبّه الأوساط المصرفية إلى أنّ سعر الصرف العائم سيدمّر ميزانيّاتها ويقضي على رساميلها، بل سيحكم عليها بالإفلاس، خصوصاً إذا طُبّق عليها دُفعة واحدة وبلا “ترفيع تدريجي”.
تعطي مثالاً ما حصل في سويسرا قبل أشهر، يوم أنجز المصرف المركزي السويسري المستحيل من أجل عدم إفلاس “كريديه سويس”، فتخطّى القوانين وتخطّى مجالس الإدارات والمساهمين وأجبر مصرف “يو بي إس” على التدخّل من أجل إنقاذ نظيره، وبالتالي إنقاذ القطاع المصرفي السويسري برمّته… لأنّ المصلحة العامّة كانت في حينه تقتضي ذلك.

تعتبر الأوساط أنّ المركزي مطالَب بأن يبادر إلى “فتح باب الحوار مع المصارف”، من أجل بحث تلك المعضلة، والكفّ عن “بيع” المواقف على حسابها

آخر دواء.. الكيّ
تكشف تلك الأوساط أيضاً أنّ المصارف حتى الآن (وربّما ليس لوقت طويل) تتحاشى الخوض في سجالات مع مصرف لبنان، باعتباره الجهة الناظمة للقطاع (Regulator)، أي أنّ العلاقة بينهما تشبه “الرئيس والمرؤوس”، لكن إذا استمرّ الأمر على هذا المنوال، فلا تستبعد تلك الأوساط أن تضطرّ المصارف، مرغمة، إلى اتّخاذ صفة الادّعاء على مصرف لبنان: “فمثلما تقدّم المودعون بدعاوى ضدّ المصارف، من حقّ المصارف أيضاً أن تتقدّم بدورها بدعاوى ضدّ المركزي”. هي تعرف أنّ تلك الخطوة لا تخلو من المخاطر، لكنّ “آخر دواء الكيّ”. فالسلطة بذلك تكون قد أجبرت المصارف على السير بهذا الطريق.
في نظر تلك الأوساط، فإنّ إجراءً من هذا النوع سيكون بمنزلة “واجب أخلاقي” لا بدّ من السير به من أجل الإثبات للمودعين أنّ المصارف صادقة في معركة استعادة الودائع، وأنّها “في خندق واحد” مع عملائها، خصوصاً أنّ مجلس النواب هو الجهة المقصّرة، وهو من يتمادى في عدم إقرار قوانين الإصلاح، ولو أقرّها في وقتها لما كان هذا النقاش كلّه قائماً اليوم، إذ يكفي تطبيق القانون، وهذا ما تحاول المصارف اليوم إيصاله إلى الحاكم الجديد.

مصادر منصوري: “بدنا نروق”
أمّا مصادر الحاكم فتنفي لـ”أساس” كلّ هذه التهم، وتعتبر أنّ منصوري بعيد كلّ البُعد عن تلك الشعبوية “المزعومة”. تؤكّد أنّ الشعبوية في المبدأ هي مبتغى الطامحين إلى لعب دور سياسيّ، بينما منصوري لا طموحات سياسية لديه. هو أكثر الناس أملاً بانتخاب رئيس جديد سريعاً، وتشكيل حكومة سريعاً، حتى ينزل عن هذا المنصب، وعلى المصارف أن تدرك هذه الحقائق وتحمد الله عليها.
أمّا ما يخصّ المآخذ الثلاثة، فتقول المصادر إنّ غياب قانون “الكابيتال كونترول” هو أصل المشكلة، وما يحاول أن يفعله الحاكم هو الفصل بين الدولار القديم والدولار الجديد، وذلك بموجب قانون يسعى الحاكم إلى تمريره تباعاً في مجلس النواب، لأنّ هذا القانون سوف يضمن عمل القطاع المصرفي واستمراريّته.
وعليه تطالب مصادر الحاكم المصارفَ بأن “تهدأ قليلاً”، لأنّ أزمات بهذه الضخامة والتراكم لا تُعالج بتسرّع، بل هي بحاجة إلى ورشة عمل ضخمة، وتعِد بأن تخرج كلّ الأرقام إلى الرأي العامّ، لكنّ الأمر بحاجة إلى مزيد من الوقت.
تضيف المصادر أنّ الحاكم “يرفض أن يتعرّض القطاع المصرفي لأيّ أذى”، بل على العكس، يتركّز جُلّ اهتمامه اليوم على السعي إلى “التوفيق بين المودعين والمصارف”، لكنّه في المقابل “يميّز جيّداً بين القطاع المصرفي وبين بعض المصرفيين”.
تتابع المصادر أنّ الحاكم “يتفهّم أنّ الكثير من بين هؤلاء المصرفيين صادقون، وقد استثمروا أموالاً طائلة في القطاع وخسروها، لكن في نهاية المطاف لا ضمانات لهم إلا مصرف لبنان، وعليه: بدنا نروق”.
أمّا الكلام عن مصلحة المودعين على حساب المصارف، فتعتبر المصادر أنّ الحاكم لا يقارب الأمر من هذا المنظور، بل يعتبر أنّ هذا الكلام يعرّض المصارف للأذى، بينما مصلحة الطرفين واحدة.

إقرأ أيضاً: الهندسات الماليّة: إرنست أند يونغ تقاضي ألفاريز؟

تؤكّد أيضاً أنّه حينما يضغط الحاكم على المصارف فذلك لمصلحتها، ولهذا تدعو المصارف نفسها إلى التريّث والالتزام بالخطة التي يرسمها منصوري من أجل النهوض مجدّداً بالقطاع المصرفي، وليس بخطط تُحاك في الظلام من أجل “بناء قطاع مصرفي جديد، وبعضهم يعرف جيّداً ما معنى ذلك”.
أمّا في مسألة توظيفات المصارف في “المركزي”، فتعترف أوساط الحاكم بأنّ الأزمة الحقيقية ليست بينه وبين المصارف، وإنّما في توزيع الخسائر، وهذا الملفّ لا تبتّه الحاكمية منفردة. بينما الحديث عن الادّعاء على مصرف لبنان، فتعتبر مصادر الحاكم أنّ المصارف تعرف جيّداً أن لا مصلحة لها بإجراء كهذا لأنّه سيلحق بها أضراراً جسيمة هي بغنى عنها اليوم.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…