من سخرية الأقدار أن يقرّر غريقٌ التفرّغ لاصطياد سمكة، أو التفكير في حسابه المصرفي، بدل أن يمسك بأيّ قشّة لينجو من الغرق.
هذا ما فعله “لبنان”، “الوطن” الذي فقدَ مرفأه قبل 3 سنوات، في سياق “حرب الممرّات” التي كان الكوكب على مشارفها، وبدأت ملامحها تظهر عليه في الأشهر الأخيرة. وربّما أبرزها “الممرّ الهندي”، الذي أعلن بدءَ بنائه وليُّ العهد السعودي في قمّة العشرين، والذي سيصل الهند بالإمارات والسعودية، مروراً بالأردن ومرفأ حيفا في إسرائيل، ويكمل إلى قبرص، ومنها إلى أوروبا.
لبنان الذي يقع “خارج” هذه الخريطة، والذي كان مرفؤه، بيروت، هو “صلة الشرق بالغرب”، بات “خارج الخدمة”. استعاد مرفأ حيفا دوره، بعدما ورثه “بور بيروت” في منتصف القرن الماضي، بسبب الحروب العربية الإسرائيلية وعدم الاستقرار في الداخل الفلسطيني المحتلّ.
من سخرية الأقدار أن يقرّر غريقٌ التفرّغ لاصطياد سمكة، أو التفكير في حسابه المصرفي، بدل أن يمسك بأيّ قشّة لينجو من الغرق
ومن سخرية الأقدار أن تعلن إسرائيل رصدَها مطاراً بناه الحزب في منطقة جزّين جنوب لبنان، “رفع عليه علم إيران”، في لحظة إعلان “الخريطة الجديدة” في المشرق العربي، التي سترث خريطة قديمة، كان محورها لبنان من جهة، وقناة السويس من الجهة الأخرى. وكلا المحورين “هزما” إسرائيل بشكل أو بآخر:
– لبنان الذي دحر القوات الإسرائيلية من بيروت بالمقاومة الوطنية منذ 1982 إلى منتصف التسعينيات، ثمّ بسلاح الحزب في السنوات الأخيرة قبل التحرير الكامل في عام 2000.
– ومصر التي “عبر” جيشها، جيش جمال عبد الناصر، قناة السويس في 1973، وما تزال نواتها الشعبية معادية لإسرائيل منذ ذلك الحين.
عواصم إيران “العربيّة”.. خارج الخريطة
الخريطة التي رسمتها قمّة العشرين الأسبوع الماضي جعلت مرفأ حيفا الإسرائيلي هو “صلة الوصل بين الجنوب والشمال”. جنوب الكرة الأرضية، الهندي، وشمالها، الأوروبي. بكلّ صفات الجنوب الجديدة، من تطوّر تكنولوجي هندي وصل إلى القمر، وبكلّ صفات الشمال المستجدّة، من شيخوخة أوروبا وحاجتها إلى الخليج والهند ونفط البحر الأبيض المتوسّط. وبكلّ ما يحمله الخليج من وعود بـ”أوروبا الجديدة”، على ما أعلن الأمير بن سلمان.
الناظر إلى الخريطة التي افتتحها الأمير محمد بن سلمان، لتشكّل “الممرّ الاقتصادي” الجديد، سيكتشف أنّها تخترق منطقتنا العربية، الخليج وشرق المتوسّط، واضعةً خارجها كلّ المدن والعواصم العربية الواقعة تحت نفوذ إيران، طوعاً أو غصباً.
اليمن والعراق وسوريا ولبنان
ها هو اليمن إلى يسار هذا الخطّ العالمي الجديد، خطّ التجارة والتبادل والتواصل: وحيداً إلى يسار الخليج، متروكاً ليراكم الأسلحة والصواريخ والهتافات الآتية من عصور سحيقة، بدل قراءة الماضي بالعقل والمصالح، ليكون دليلاً إلى المستقبل… إلى جانب “الطريق الجديد”، طريق الازدهار والحداثة والاتّصال والوصل.
إلى يمين الخطّ، سنجد العراق وسوريا ولبنان: بلاد الإفلاس والعزّة والخراب والكرامة. والقاموس أصبح عبئاً يطوف غرابةً، بسبب ترادف الأضداد وارتباكها، بين التباهي بـ”انتصاراتٍ” لا تنتهي، تكون نتيجتها الجوع واليأس والتسوّل على أبواب الصناديق العربية والدولية وطلب المعونات السياسية والغذائية والماليّة من “المهزومين”.
الناظر إلى الخريطة التي افتتحها بن سلمان، لتشكّل “الممرّ الاقتصادي” الجديد، سيكتشف أنّها تخترق منطقتنا العربية، الخليج وشرق المتوسّط، واضعةً خارجها كلّ المدن والعواصم العربية الواقعة تحت نفوذ إيران، طوعاً أو غصباً
يعبر الخطّ واضعاً بيروت وبغداد والشام، حواضر العرب التي كانت أولى، في وصل الشرق بالغرب، وفي التجارة والنفط والثقافة والفنون والحضارة، يعبر خطّ المستقبل ويبقيها خارج هذا الحزام الذي سيرث خطوط التجارة القديمة.
في لحظة إعلان هذا الممرّ الاقتصادي والتجاري الواعد، كانت إسرائيل تعلن اكتشاف مطار إيراني في جنوب لبنان. تماماً كما يُجري زعيم كوريا الشمالية تجارب على صواريخ جديدة، وتجارب نووية، فيما شعبه يئنّ تحت أنياب الجوع ورعب الاستبداد والأمن.
مطارات العسكر… ومطارات المستقبل
هكذا بات لبنان الإيراني: يبني مطاراتٍ عسكرية، في لحظة بناء مطاراتٍ تنقل المنطقة إلى المستقبل. لبنان الإيراني الذي فقدَ مرفأه، إمّا بعملية عسكرية إسرائيلية خاطفة، أو بإهمال الدولة التي كان يمسكها أزلام إيران… لبنان الإيراني هذا مثل بغداد الإيرانية والشام الإيرانية وصنعاء الإيرانية، دول فاشلة فقدت مرافئها وإطلالاتها على بحور الحاضر وفضاءات المستقبل، وتبني بدلاً منها مطاراتٍ لحروب تتوهّم أنّها ستنطلق منها إلى حكم الشرق العربي وربّما أوروبا…
هي مدنٌ يبني الحاكمون بأمرها مخازن الأسلحة ويعبّئونها، فيما المستقبل يحتاج إلى خبراء التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة وخطوط التجارة الحرّة والاستقرار لسلاسل الإمداد المعرفي والاقتصادي. مدنٌ يحكمها مَن يجد الحلول في الحديد والنار والدم وتجارة الممنوعات وصناعة الكبتاغون، فيما جيرانه ينهمكون بصناعة رقائق التكنولوجيا الذكية و”عبقرية” تغيير الخرائط بالتجارة والسلام، بدل أوهام المسيّرات وخطايا الأسلحة.
لتبيان الصورة بشكل أوضح: هناك “سلطة” في لبنان فقدت مرفأها الإقليمي، الذي كان صلة الشرق بالغرب وأهمّ مرفأ في شرق المتوسط. فقدته بالحديد والنار. وهي سلطة تدّعي أنّها تحمي لبنان واللبنانيين ومصالحهم… والمرفأ هذا هو الذي صنع دور البلاد وصنع تاريخ العاصمة الحديث.
فكيف ردّت؟
قرّرت أن تبني بدلاً منه مطاراً كاريكاتوريّاً في جنوبها، مطاراً لا يتّصل بأيّ مكان إلّا بالقصف والحرب والخراب، مطاراً صغيراً كأحلام بُناتِه ومستقبلهم. وهم هؤلاء الذين لم يبنوا في الجنوب لا مصنعاً ولا جامعةً ولا مركزاً ثقافياً يُنتج معرفة أو يتّصل بالعالم.
إقرأ أيضاَ: من قتل طلال سلمان؟
هؤلاء يبنون مطاراً لا يحمل صفات المطار، ولا يصل الجنوب بأيّ دولة، ولا دور له سوى إطلاق النار في لحظة الحرب. وهي دوماً لحظة استثنائية. أمّا في السلم فهو موقوف بلا دور ولا وظيفة ولا “عازة” سوى “التنقير” على الشركاء في الوطن، لإفهامهم أنّ هذا الحزب بات “يبني المطارات” ويقارع الدول “العدوّة”، تلك الدول التي يوقّع معها معاهدات سلام، في البرّ والبحر، لتقاسم النفط والغاز والمال… ولحفظ “سلطته” فوق الخراب العميم في الداخل.
الطريف أنّ هذا الحزب رفض السماح لنصف اللبنانيين ببناء مطار في القليعات شمالاً لأسباب غير مقنعة. وهو مطار القليعات الذي يحقّ لأهل الشمال أن يطيروا منه ويتّصلوا بالعالم، من دون المرور على “طريق المطار” التي يمسك بها هذا الحزب. لكنّه يسمح لنفسه بأن يبني المطارات من دون أن يسأل أحداً، ويضع عليها أعلام الدولة التي تدعمه بالمال والسلاح.
هل هناك تقزيم للبنان ودوره أكثر من هذا؟
هل نستحقّ أكثر من الشفقة؟ نحن سكّان “الجهة الخطأ من التاريخ”، الذين بدأت الخرائط تلفظهم، على يمينها ويسارها، لتعبر بينهم وفوقهم وتحتهم. هم الغرقى في الماضي، يريدون اصطياد سمك الحروب، ومراكمة الأرباح السياسية، فيما تعبر إلى جوانبهم أخشاب الإنقاذ، وهم لا يريدون النظر إليها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@