انفجار مرفأ بيروت وسيول درنة!

مدة القراءة 5 د


ما أشبه الليلة بالبارحة، كما يقول المثل العربي. تتكاثر الاتّهامات المتبادلة بين المسؤولين الليبيين بشأن عواقب ما حدث في مدينة درنة بشرق ليبيا من سيولٍ وعواصف أدّت إلى دمارٍ شبه كامل للمدينة، وهلاك الألوف المؤلَّفة من ساكنيها. صحيح أنّ هناك اقتناعاً بأنّ السيول لم تكن عاديّة. إنّما هناك إصرارٌ أيضاً على أنّ السّدَّين بأعلى المدينة اقتلعتهما السيول بسهولة لأنّهما كانا متصدِّعَين. منذ خمسة عشر عاماً ما جرى الاعتناء بهما أو صيانتهما وإصلاح البثوق فيهما. وما تنبّهت إلى المقارنة بين انفجار مرفأ بيروت وسيول درنة إلّا عندما عمل أحد الإعلاميين اللبنانيين نكتةً مفادها أنّ سدود درنة فيما يبدو كانت مثل سدود جبران باسيل! والتشبيه غير صحيح، لأنّ سدود باسيل لم تجمع ماءً لكي تؤثّر فيها السيول إن حصلت، بينما سدود درنة كانت صالحةً لآماد حتى أُهملت أخيراً فصارت المدينة المعتادة على السيول تحت رحمتها. المهمّ أنّ مسؤولي الغرب (أعني غرب ليبيا) والشرق (أعني شرق ليبيا) لأنّ في البلد حكومتين، يتبادلون الاتّهامات، فيقول الشرقيون إنّ حكومة طرابلس لم تخصّص أموالاً للإصلاح، فيجيب الغربيون: بل خصّصنا أموالاً كثيرةً، لكنّها أُنفقت على غير طائل (يعني من الشرقيين أو من المقاولين لا ندري!). وهكذا لا يكثر العمل في بلد توجد فيه حكومتان بل يقلّ ويتضاعف الفساد. وفي لبنان حكومةٌ (تتمثّل في الحزب المسلَّح) ونصف (يتمثّل في الحكومة الرسمية)، وعندما انفجر المرفأ تبيّن أنّ الحكومتين أو الحكومة ونصف الحكومة مشاركتان في الجريمة أو أنّهما تمتلكان المعلومات عن تاريخ النيترات وتخزينها، لكنّ أحداً، والحقّ يُقال، ما كان يتوقّع انفجارها أو تفجيرها.

يعتذر المسؤولون الليبيون بأنّ السيول كانت هائلة، وما كان السدّان ليصمدا، لكنّهما كانا سيتعاونان أكثر ويقلّلان من الخسائر، ويتيح صمودهما للسكّان التنبّه والخروج من المدينة

من درنة إلى بيروت
يعتذر المسؤولون الليبيون بأنّ السيول كانت هائلة، وما كان السدّان ليصمدا، لكنّهما كانا سيتعاونان أكثر ويقلّلان من الخسائر، ويتيح صمودهما للسكّان التنبّه والخروج من المدينة، بدلاً من أن يحدث كلّ شيء في دقائق لا تتيح تجنّباً ولا هرباً! وكذلك تفجير المرفأ كان مفاجئاً جدّاً، وأنا أتبع آراء خبراء في أنّ الإسرائيليين هم الذين فجّروا. كان الحزب المسلَّح يعرف بتخزين النيترات، وكانت لديه موادّ متفجّرة في مخازن قريبة، وهذا ما يقوله خبراء وشهودٌ أيضاً. وما كان ذلك ليخفى على العدوّ الذي يغير على الأرض السورية مرّتين أو ثلاثاً في الأسبوع أحياناً بنفس الدواعي والمبرّرات! إنّما إذا كان ذلك صحيحاً (التخزين المزدوج)، وأنا أقول ذلك بعد ثلاث سنواتٍ ونيِّف، وقد قيل كلامٌ كثيرٌ جدّاً بالداخل والخارج، فالسؤال: لماذا التخزين بالمرفأ لا في مخازن الحزب المنتشرة في كلّ مكان؟! 
كما تجري المحاكمة الإعلامية (والقانونية؟) بعد سيول درنة، فإنّ الأمر في لبنان ممُاثل لأنّ الجميع مسؤولون إمّا بالمعلومات والإهمال لعدم إدراك الأخطار، وإمّا بسبب المشاركة والإطباق على منع المحاسبة. وقد ذكر زعيم الحزب المسلَّح أخيراً السبب في حيلولة فريقه دون التحقيق مع المسؤولين عن المرفأ عبر سنوات من السياسيين والإداريين والعسكريين والأمنيّين، والأخيرون جميعاً تابعون للسياسيين، إذ قال الرجل إنّه ضدّ القضاء والتحقيق في الجريمة لأنّ التحقيق مسيَّس مع أنّ القاضي لم يصدرْ بعد تقريره الوصفي والاتّهامي. لكنْ كما جاء في النصّ: يكاد المريب يقول خذوني! وما تزال الجهات الرئيسية في الحكومة ونصف الحكومة حاضرةً في السلطة منذ عام 2014 أو 2013 حين وصلت النيترات إلى مرفأ بيروت.
في لبنان ضحايا مرفأ بيروت مئتان وأربعون وأكثر، ودمار ثلث العاصمة، وخسائر بالمليارات، وتعطّل ثلثَي المرفأ مرافق ومخازن، ومنها أهراءات القمح. وفي ليبيا دمار ثلاثة أرباع درنة ونصف البيضاء وثلث بلدة الشحات وهلاك عشرات الألوف. وللطبيعة جزءٌ بارزٌ في التعليل في ليبيا، وأمّا في لبنان فكلّ الجريمة مسؤولية نصف الحكومة المتصدّعة، والحكومة المسلَّحة المسيطرة. كلّ الأدوات ومادّة الجريمة حضرت في المكان. والحزب المسلَّح يعرف العدوّ جيّداً، فإن لم يتوقّع وزراء الأشغال التفجير، فالحزب والأمنيون كان يجب أن يتوقّعوا بالتأكيد. فهم مسؤولون حتماً، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان هناك تحقيق وتبيان مسؤوليات. وهو الأمر الذي لم يجرِ في لبنان قطّ، وأمّا محاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري فقد جرت في الخارج الدولي.
نداء إلى اللبنانيين
في مؤتمر G20 بالهند طوَّرت السعودية مع الهند “ممرّ الهند” التجاري الذي شمل معظم الموانئ والمرافق بالمشرق وما وراءه باستثناء بيروت بسبب دمار مرفئها. والآن نعرف أنّ نصف الحكومة العرجاء صرفت حصة لبنان من أموال صندوق النقد بدون التشاورٍ معه. والصندوق عبْر وفده الذي جاء إلى بيروت هدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم تجرِ الإصلاحات. والحكومة الضعيفة والمتصدّعة تقول إنّها لا تجرؤ على تلبية مطالب الصندوق لأنّها تخشى غضب الشعب! كأنّما الشعب الفقير والغفور هو راضٍ عنها الآن!
أيّها اللبنانيون الأشاوس.
تعالوا نعتبر الحزب المسلَّح وحكوماته وجبران باسيل وخنزواناته وميقاتي وخبريّاته، جزءاً من غضب الطبيعة مثل سيول درنة والبيضاء فنُريح أنفسنا ونُريح المسؤولين المهمومين جداً بسبب ضمائرهم الحيّة التي لا تنام، واضطرار زعيم الحزب للدفاع عنهم باعتبار القضاء مسيَّساً!

إقرأ أيضاً: الجريمة السياسيّة والجريمة الأخلاقيّة

في ليبيا حكومتان وجيشان وعشرات الميليشيات. وفي لبنان حكومة ونصف وجيش وميليشيا، ومتنفّذون على مدّ عينك والنظر. فالمشكلة ليست في ضعف السلطات أو غيابها، بل في كثرتها وتناحُرها، وفي الأخير إجماعها على الخضوع لزعيم الحزب المسلَّح.
عندكم أيّها الليبيون واللبنانيون هذه النخبة النادرة من المسؤولين الكبار المحترفين، وتسألون عن السيول والانفجارات، فهي ستظلّ تحدث وتتوالى ما دام هؤلاء موجودين!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…