حلّ أزمة النزوح السوري في لبنان، بحسب ما تفتّقت عنه مداولات اللقاء الوزاري التشاوري أخيراً، لا ما صدر عنه من قرارات علنية، ذو شقّين:
– الأوّل: إطلاق النار عن عمد على أيّ نازح غير قانوني عبر الحدود، كما يفعل أحياناً رجال “الجندرمة” التركية، فيسقط قتلى بشكل روتيني.
– ثانياً: فتح البحار أمام من أراد الفرار من النازحين السوريين المقيمين في لبنان نحو أرض الله الواسعة في أوروبا، كما فعل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في بعض المراحل للضغط على القارّة العجوز.
لكنّ ثمّة مشكلة “صغيرة”، وهي أنّ لبنان غير تركيا، ولا يمكنه الضغط على أحد، بل هو يفتقر بشدّة إلى العون الدولي، لإنقاذه من الانهيارات النقدية والمالية والاقتصادية التي يمرّ بها منذ عام 2019. ولو فرضنا أنّ السلطة اللبنانية التي تتلكّأ في إنجاز الحدّ الأدنى من الإصلاحات المطلوبة داخلياً وخارجياً، ومن المؤسّسات الدولية كصندوق النقد الدولي بشكل خاص، قد تورّطت في انتهاك ما يسمّى حقوق الإنسان، والمعنيّ هنا هو حقوق اللاجئ السياسي في الدول المُضيفة له، فإنّ ما ينتظره لبنان من دون أيّ إبطاء حزمةٌ من العقوبات المتوقّعة في هذا المجال. ولا ندري إن كانت المساعدات التي تقدّمها بعض الدول للجيش والأجهزة الأمنيّة ستبقى على حالها أم تنقطع.
لو أنّ الحكومة اللبنانية قامت منذ البداية بإحصاء النازحين وحصرهم في مخيّمات محدودة، لما كانت الآن تعاني من العمى الاستخباري، بشأن أعداد النازحين، وأصنافهم، وميولهم
بالطبع، لم تتضمّن القرارات شيئاً من الحلّ الديماغوجي غير القانوني الذي تسرّب عمداً إلى وسائل الإعلام، فحاز قدراً كبيراً من إعجاب الجمهور. لكنّ هذا النوع من التفكير بصوت عالٍ ليس من دون عواقب وآثار، على كلّ المستويات، فيما الخطوة الأولى قبل أيّ حلّ حقيقي، هي التشخيص الدقيق للأزمة، أسبابها، آثارها، الأخطاء المرتكبة منذ عام 2011، الدروس المستفادة. والأمر الأهمّ هو الحصول على معلومات دقيقة عن أوضاع النازحين، قبل اتّخاذ قرارات شعبوية.
“أساطير” النزوح
يسرد تقرير صادر عن “معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية” في الجامعة الأميركية في بيروت، بجزئه الأول في كانون الثاني 2018، بإشراف الدكتور ناصر ياسين، (وزير البيئة حالياً)، أرقام النازحين داخل سوريا وخارجها، وحقائق النزوح، ومشكلاته ومتطلّباته. لكنّ اللافت أنّه يوثّق “الأساطير” التي ما يزال بعض اللبنانيين يتناقلونها حتى اليوم، منها:
– الرُّهاب من كثرة إنجاب الأطفال السوريين.
– ونشر إحصاءات غير مؤكّدة لبثّ الهلع الديمغرافي.
– والادّعاء أنّ معظم الرجال النازحين يمتلكون خبرات عسكرية بحكم خضوعهم للتجنيد الإجباري في سوريا، وهو ما يجعلهم جيشاً كامناً متأهّباً، أو خلايا نائمة تنتظر لحظة الانقضاض.
– كما الإشارة الدائمة إلى العبء الاقتصادي الذي يمثّله النازحون على لبنان، وتفاقم ذلك مع الانهيار الاقتصادي الحالي.
والمعاني السياسية المستخلَصة حالياً من اجترار الأساطير نفسها:
– تخويف المسيحيين من الاختلال الديمغرافي لمصلحة المسلمين.
– وتخويف الشيعة من مخطّط افتراضي ترسمه المعارضة السورية لاجتياح لبنان.
– وتخويف السُّنّة من إمكانية عودة نفوذ النظام السوري إلى لبنان عبر أفراده النازحين.
بالمقابل، ينبغي التأكيد مجدّداً أنّ الحرب في سوريا هي بين “نظام” و”معارضة”. بدأت تظاهرات سلمية، وحوّلها القمع الدامي إلى اقتتال بين العسكريين الموالين وبين الجنود والضبّاط المنشقّين عن الجيش والأمن، خاصة في المدن والقرى الثائرة.
أمّا الإرهاب فجاء لاحقاً، وكان خشبة الخلاص. وبعد عشرات اللقاءات التفاوضية بين النظام والمعارضة، خارج سوريا، ما يزال النظام يتمسّك بسردية أنّه قاتل الإرهاب منذ اللحظة الأولى وما يزال يقاتله. وحلفاء النظام في لبنان يتابعونه في ما يزعمه. وهو لذلك يماطل في تقديم أيّ تنازل سياسي حقيقي، بما يوصل إلى الاتفاق-التسوية الذي ينهي الحرب على غرار اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989.
ينبغي التأكيد مجدّداً أنّ الحرب في سوريا هي بين “نظام” و”معارضة”. بدأت تظاهرات سلمية، وحوّلها القمع الدامي إلى اقتتال بين العسكريين الموالين وبين الجنود والضبّاط المنشقّين عن الجيش والأمن، خاصة في المدن والقرى الثائرة
كلّ محاولات التطبيع بين دمشق والعالم العربي والمجتمع الدولي متوقّفة على إيجاد هذا الحلّ السياسي. أمّا الحاصل فهو سيطرة الأساطير على الخطاب اللبناني المناهض عامّة للنزوح السوري، على الرغم من أنّ معظم من يتبنّاه الآن هم من كارهي النظام لا مؤيّديه:
– أولاها: أنّه لا يوجد بالإجمال لاجئون سياسيون، بل نازحون اقتصاديون.
– وثانيتها: أنّ الحرب انتهت في سوريا، وتوجد فيها مناطق آمنة كثيرة.
– وثالثتها أنّه بمجرّد اللقاء مع بشار الأسد في دمشق ستُحلّ المشكلة، فيستقبل النازحين الذين هجّرهم بكلّ ترحاب.
تشخيص الأزمة
لا بدّ أوّلاً من تشريح النازحين وفق انتماءاتهم ودوافعهم قبل خلط الأمور، بطريقة غير علمية ولا مفيدة:
– الموجة الأولى كانت من النازحين المعارضين، إثر معارك حمص والقلمون وريف دمشق بين عامَي 2012 و2018، ممّن تعرّضت قراهم وبلداتهم للقصف والحصار ثمّ التهجير المنهجيّ، فضلاً عن الشباب الفارّين من التجنيد الإجباري، سواء أكانوا معارضين أو موالين. ليس هذا فحسب، بل إنّ كلّ فرد من هذه المناطق المنكوبة، خسر أمواله وأملاكه بقرارات حكومية تحت عنوان التنظيم العقاري، وكلّ من يحاول العودة يتعرّض للاعتقال والمساءلة. أمّا خروجهم القسري من سوريا فكان مخطّطاً وليس عشوائياً، للتخلّص من عبء أمنيّ، ومن فائض بشري غير مفيد.
– الموجة الثانية من النزوح التي تشتدّ في الآونة الأخيرة، فمعظم أفرادها من الموالين أو المحايدين غير المسيّسين، والذين عضّتهم الأزمة الاقتصادية بأنيابها القاسية نتيجة الحرب أوّلاً والعقوبات الدولية ثانياً، فباتوا في فقر مدقع، فلم يجدوا سوى لبنان ممرّاً للهجرة إلى أوروبا، أو مقرّاً للإقامة غير الشرعية غالباً بالنظر إلى وجود أقاربهم في لبنان. وهذا الخروج القسري اجتماعياً واقتصادياً، لا يضرّ النظام بشيء بل يفيده لأنّه يحقّق جملة من الأهداف دفعة واحدة، أبرزها التخلّص من عبء اقتصادي. فالدولة السورية المنهوبة داخلياً من أثرياء السلطة والأثرياء الجدد، فضلاً عن رهن ثروات البلاد للدول الصديقة التي ساعدت النظام على الصمود في السنوات المنصرمة، لا يمكنها تقديم المستلزمات الأساسية للمواطنين حتى للموالين منهم.
– الموجة الثالثة، التي أثارت الفزع في كلّ المستويات، لا سيما وأنّها بالآلاف وتضمّ فئات شبابية قادرة على حمل السلاح، فقد جاءت عقب التحرّكات الشعبية الأخيرة في مناطق المعارضة وفي محافظة السويداء خاصة. وبالنظر إلى خشية النظام من تجدّد الحراك الشعبي في المناطق التي سيطر عليها بالقوة، فقد لجأ إلى تشديد الرقابة على الشباب فيها، ممّن هم في عمر التجنيد الإلزامي. وهو ما دفع الآلاف منهم إلى الفرار الجماعي عبر شبكات تهريب يديرها أزلام النظام نفسه، ومع أسعار مخفّضة (30 دولاراً “على الرأس” أو ما يقارب ذلك، بعدما كان السعر 100 دولار). والهدف مجدّداً، هو التخلّص من عبء أمنيّ محتمل.
إقرأ أيضاً: الجريمة السياسيّة والجريمة الأخلاقيّة
من ناحية أخرى، فإنّ تصدير النازحين إلى الدول المجاورة لسوريا، كمثل تهريب الكبتاغون، من حيث الغاية والوسيلة، إذ يستهدف الضغط والابتزاز للحصول على الأموال اللازمة لإعادة الحياة إلى الدولة السورية وأدواتها العسكرية والأمنيّة. وهذا بدا واضحاً من الحوار الأخير الذي أجرته قناة “سكاي نيوز عربية” مع الرئيس السوري في 9 آب الماضي. فهو قال صراحة إنّ البلاد مدمّرة، ولا يمكن عودة النازحين قبل إعادة الإعمار، مطالباً الدول التي يعتبرها متورّطة في الحرب بدفع المال، وهذا يفترض مرور سنوات قبل العودة الرسمية، وهذا فيما لو جرت الريح كما يشتهي الأسد.
ما هو الحلّ؟
لو أنّ الحكومة اللبنانية قامت منذ البداية بإحصاء النازحين وحصرهم في مخيّمات محدودة، لما كانت الآن تعاني من العمى الاستخباري، بشأن أعداد النازحين، وأصنافهم، وميولهم (من حيث أنّهم نازحون سياسيون أو اقتصاديون). أما وقد انتشر النازحون في كلّ أرجاء لبنان، وحدثت مصاهرات كثيرة بين سوريين ولبنانيين، ونتج عنها ولادات كثيرة أيضاً، فقد أصبحت المشكلة من التعقيد بحيث لا يكفي إطلاق مواقف عمومية، وكأنّ الحلّ سحريّ. الوشائج وثيقة وقديمة بين السوريين واللبنانيين. وثمّة تداخل ديمغرافي يزداد رسوخاً مع الوقت. لكنّ هذا لا يعني الاستسلام، بل إنّ تطبيق القوانين في دولة الاستخفاف بالقانون هو حبل النجاة الوحيد لحفظ حقوق اللبنانيين في وطنهم.