يسبق الزيارةَ الثالثة للمبعوث الرئاسي الفرنسي الخاصّ إلى لبنان جان إيف لودريان لقاءان بارزان:
– اللقاء الأوّل: المحادثة الثنائية التي جمعت كلّاً من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على هامش اجتماع مجموعة العشرين المنعقدة في العاصمة الهندية نيودلهي.
– اللقاء الثاني: اجتماع تقنيّ ثانٍ للّجنة الخماسية في باريس حيث يوجد ممثّلو دول كلّ من المملكة العربية السعودية ودولة قطر، بالإضافة إلى الخليّة الفرنسية المؤلّفة من المبعوث الرئاسي الفرنسي الخاصّ ومستشارين من الخارجية الفرنسية وباتريك دوريل بصفته مسؤول دائرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الرئاسة الفرنسية. يُعقد الاجتماع بعد القمّة الفرنسية السعودية في نيودلهي ويسبق توجّه جان إيف لودريان إلى بيروت، وذلك للتنسيق بشأن الأزمة اللبنانية والبحث عن حلّ سريع.
أجواء محيطة بزيارة لودريان
تتزامن زيارة لودريان الثالثة للبنان مع حالة من التقارب الفرنسي مع المجموعة العربية، وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية إضافة إلى تقارب فرنسا مع دول جنوب آسيا كجزء من استراتيجية حازمة بشكل متزايد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وإلى ما يجري من نقاش باريسي هادئ مع الولايات المتحدة الأميركية حول أطلسيّة فرنسا ووحدة الاتحاد الأوروبي.
أضحت المبادرة الفرنسية مع إدارة لودريان جزءاً لا يتجزّأ من الإجماع الدولي الخماسي، وباتت تنتهج العمل الدبلوماسي الجماعي الشفّاف بعيداً عن التفرّد معتمدة ثلاثة مرتكزات:
1- إقدام فرنسيّ لامتناهٍ: في حرصها الشديد على الحلّ السريع للملفّ اللبناني، بداية مع حلّ أزمة الشغور الرئاسي، عبر تحفيز المساعي التسوويّة الممهّدة لانتخاب الرئيس. لا تريد فرنسا الخسارة في لبنان، فهي لا تتحمّل صدمة ثانية وفشلاً آخر على غرار ما حصل على المسرح الإفريقي.
تتزامن زيارة لودريان الثالثة للبنان مع حالة من التقارب الفرنسي مع المجموعة العربية، وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية إضافة إلى تقارب فرنسا مع دول جنوب آسيا كجزء من استراتيجية حازمة
2- اندماج باللقاء الخماسيّ: التحمت فرنسا بشكل تامّ باللقاء الخماسي، الذي هي جزء أساسي منه، وليس لديها أيّ مجال للتمايز كما في السابق. لا ترغب في إحراج نفسها أكثر. أضحت مقتنعة بأنّ الحلّ في لبنان لا يكون إلا عبر مسلّمات البيان الثلاثي ونقاط الاتفاقية الدولية لاجتماع قطر.
3- الدعم السعوديّ: يرغب الرئيس الفرنسي ماكرون بطلب دعم سعودي إضافي لمهمّة المبعوث الرئاسي الخاصّ من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، كما رشحت معلومات موثوقة من الرئاسة الفرنسية وكواليس وزارة الخارجية. وهي دلالة على اقتناع فرنسا التامّ بالحلّ اللبناني عبر الرؤية السعودية المكرِّسة لمنطق الدولة والمؤسّسات والسيادة واستقلال لبنان، عبر تطبيق الدستور والقرارات الدولية.
هذا ما فعله لودريان
لقد تمكّن لودريان بدبلوماسيّته وحنكته مستفيداً من الظروف الدولية، وخاصة الأخيرة في إفريقيا، من جعل قرار فرنسا الرسمي بخصوص الأزمة اللبنانية وحلّها متطابقاً ومتناغماً مع مقتضيات اللقاء الخماسي، بعدما كان في السابق متأرجحاً بين الصفقات الأقلّوية والطاقوية النفطية، وغير متّزن لناحية انقلاب فرنسا على سياستها التقليدية الخارجية والدولية.
ساعد لودريان في تقريب العلاقات الدولية الفرنسية السعودية إلى حدّ امتعاض ماكرون العلني من سلوك إيران والفريق الآخر بعدما كان مأخوذاً بعيداً عن ضجيج الإعلام والكلام العشوائي غير المرتكز إلّا على العشوائية والشعبوية.
يُعتبر طلب فرنسا “دعماً سعودياً”، بحسب دائرة المستشارين الكبار في الرئاسة الفرنسية، تقدّماً ملحوظاً في سلّم العلاقات الفرنسية السعودية، وتوأمة تامّة في ما يخصّ الملفّ اللبناني. سلّمت فرنسا بخريطة حلّ هذه المشاكل عبر الخطّ الذي رسمته السعودية. تنضوي تحت هذه المسوّدة كلّ دول اللقاء الخماسي. وأصبحت كلّ تمايزاتها غير معرقِلة للمبادئ العريضة. وتحترم الأهداف الأساسية المرجوّة والمطلوبة، وهي انتخاب رئيس غير استفزازي والمضيّ قدماً بمسيرة الإصلاح والتعافي المؤسّساتي.
استطاع لودريان خلال فترة تسلّمه مهمّته أن يفصل القرار الفرنسي في الملفّ اللبناني عن الشخصانية بعملية جراحية دبلوماسية. تمكّن من إبعاد فرنسا عن التحالفات الغريبة المحرجة للمصلحة العليا الفرنسية، ولا سيّما في فترة تسويقها الوزير الأسبق سليمان فرنجية، واقتناعها برؤية فريق الممانعة. كان الاقتناع بسليمان فرنجية لا يعود إلى تقارب شخصي، وإنّما إلى جهوزيّته وإمكانية الإنهاء السريع للشغور، وبسبب ضياع فريق المعارضة لفترة ما. أغرقت تلك الحجّة فرنسا في الوحل اللبناني حينها. جعل لودريان من القرار الفرنسي واحداً موحّداً مصدره الإليزيه فقط، لا أروقة الإليزيه ووزارة الخارجية والمستشارين.
ساعد لودريان في تقريب العلاقات الدولية الفرنسية السعودية إلى حدّ امتعاض ماكرون العلني من سلوك إيران والفريق الآخر بعدما كان مأخوذاً بعيداً عن ضجيج الإعلام والكلام العشوائي غير المرتكز إلّا على العشوائية والشعبوية
دبلوماسيّة فرنسيّة بوقود سعوديّ
أدارت فرنسا محرّكاتها الدبلوماسية بالوقود السعودي لحلّ الأزمة اللبنانية. لا تريد فرنسا إخفاقاً آخر. يتزامن هذا الحراك الدبلوماسي مع لقاء مجموعة العشرين الذي يُعقد وله أولوية تجاوز الخلافات بسبب الحرب في أوكرانيا والتوصّل إلى توافق في الآراء في القمّة التي تستضيفها الهند. تعوّل فرنسا كثيراً على اللقاء مع وليّ عهد المملكة العربية السعودية، صاحبة الوجود الإيجابي الآثر في نيودلهي، نظراً لأهمية المواضيع والملفّات المدرجة على طاولة البحث الثنائية، وأهمّها المناخ والطاقة البديلة الهيدروجينية والاقتصاد الأخضر الدائري، وسوف يمرّ لبنان لا محالة في سياق الحديث. سيكون للملفّ اللبناني نصيب عرَضي منه. وعندها ستُطرح مسألة الأزمة والشغور والسبيل للوصول إلى التسوية. ودُعيت إلى اجتماع مجموعة العشرين الدول غير الأعضاء مصر والإمارات وسلطنة عمان وغيرها.
ليس بحوزة لودريان أيّ تصوّر شخصي، وحتى لو وُجد فهو يحتفظ به لنفسه. يراقب تقلّب الظروف ويدرسها جيّداً. سيستمرّ بمسعاه من خلال لقاءات ثنائية ومع وفود تشمل كلّ المنظومة السياسية. يعمل بالتنسيق مع المجموعة الدولية لإحداث خرق يؤدّي إلى جلسات متتالية.
إقرأ أيضاً: لودريان “يعوّم” فرنسا… والراعي “يُعوّم” فرنجيّة؟!
طمس جان إيف لودريان العثرات الفرنسية السابقة. يأتي إيابه الثالث إلى بيروت مكرِّساً للبيان الخماسي والرؤية السعودية، مشكّلاً استجابة مهمّة للأصوات المنادية بالدولة والمؤسّسات والمدافعة عن صيغة لبنان 1920. فهل تنجح فرنسا في مهمّتها؟