تمرّ السياسة الفرنسية الخارجية في مخاض عسير. تخضع إلى امتحان حقيقي. تأثرت كثيراً بخلل السياسة المحلية ومتغيراتها. تعمل فرنسا حالياً على تحديد أولوياتها السياسية الدولية والخارجية من جديد. تنكب على إعادة نسج تحالفاتها وبلورة أهدافها الاستراتيجية وخطواتها التكتيكية. تحاول تصحيح مساراتها وتوضيح رؤيتها ومصارحة حلفائها. تجهد لكي تعود نداً واقعياً لأخصامها بعدما أضحت متخبطة محلياً، ضائعة قارياً وأوروبياً، وغير متزنة دولياً، بدءاً من لبنان بوابتها في الشرق الأوسط إلى شمال افريقيا، ناهيك عن منطقة مرج المحيطين بين الأطلسي والهادي.
أولوية السياسة الخارجية الفرنسية
زادت الأحداث الأفريقية مع الأزمة اللبنانية في الطين الفرنسي بلة، حيث تواجه فرنسا سقوطاً ناعماً في موقعها وحضورها على المسرح الدولي عامة، وفي أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط ولبنان خاصة. لا تريد فرنسا انقلاباً سياسياً وطرداً وجودياً لها في لبنان، فهي حريصة عليه وعلى صيغته. وتحاول بحذر تفادي ما حصل معها لوجيستياً وسياسياً في شمال أفريقيا حيث تتمحور أولوية سياستها الخارجية من خلال:
– العودة إلى أطلسيتها من جديد.
– حماية الديمقراطية في العالم وصون مؤسساتها الشرعية وحماية مشروعياتها وحرياتها.
– عدم الانسحاب في لبنان، وفي دعم منطق الدولة والدستور والضغط من أجل عقد الجلسات الانتخابية الرئاسية المتتالية من دون قيد ولا شرط، والحوار الدائري الكلاسيكي الشامل والمكروه لبنانياً.
– عدم الانكسار في افريقيا، من خلال العمل على امتصاص الصدمات الواقعية بعقلانية ومحاولة حماية الحاضرعلى علله، واستعادة بعض توازنها بمساعدة حلفائها الأطلسيين.
تمرّ السياسة الفرنسية الخارجية في مخاض عسير. تخضع إلى امتحان حقيقي. تأثرت كثيراً بخلل السياسة المحلية ومتغيراتها
مرتكزات الآداء السياسي الفرنسي في لبنان
يرتكز الآداء السياسي الفرنسي الجديد في لبنان في تعامله مع معضلات الملف الراهن، وبعد خطاب الرئيس “ماكرون” أمام السلك الخارجي والدبلوماسي الفرنسي، والذي دعم به كل خطوات مبعوثه الخاص “جان إيف لودريان” على:
– دعم صيغة دولة لبنان الكبير 1920، وحماية دستور ووثيقة الوفاق الوطني “الطائف 1990”.
– تطابق فرنسا بشكل كامل مع لغة الإجماع الخماسي الدولي. وتتقيد بصفة تامة ببنود البيان الثلاثي، وهي القادرة وحدها على إحداث خرق في أزمة الشغور الرئاسي اللبناني.
– سعي فرنسا للعودة لكي تكون وسيطاً نزيهاً ومجرداً في لبنان، في استعادة دورها ولونها، وكذلك بأن تكون حليفة للدول العربية، مع تفعيل شراكتها الاستراتيجية مع أميركا في المنطقة.
الأطلسية الفرنسية
تضغط فرنسا على الأطراف المقابلة الروسية والصينية والإيرانية في أفريقيا بمساعدة حلفائها الأصليين. هم معها في أفريقيا إذا كانت هي معهم في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط. وساهمت الأحداث الأفريقية في خلط الأوراق الفرنسية من جديد، مما أعاد الأولوية إلى “النزعة الأطلسية الفرنسية”. ففي معلومات حصرية مصدرها الرئاسة الفرنسية وأروقة وزارة الخارجية، هنالك تواصل دقيق بين كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وحوار حول أطلسية فرنسا، مع متابعة للأحداث الدائرة في افريقيا. فلا تريد أميركا انكساراً فرنسياً في أفريقيا حيث تصب قوتها ووجودها فيها إلى مصلحتها. وتعتبر أميركا القواعد العسكرية الفرنسية وخاصة تلك التي في النيجر حاجة أميركية استراتيجية. لا ترغب أميركا بنفس الوقت انحلالاً فرنسياً في أوروبا، ولا تلاشي أكثر للاتحاد الأوروبي لأن ذلك يسهّل الأمور على روسيا والصين وحتى إيران في متابعة تغولهم وقضمهم وإحكام سيطرتهم على مفاتيح الدول الاتحادية الأوروبية بالنكهة الاقتصادية والتنموية.
ماذا تريد أميركا من فرنسا؟
تريد أميركا من فرنسا أن تكون أطلسية، وتريد اتحاداً أوروبياً قوياً ومتناغماً أكثر مع حلف الأطلسي (الناتو). وتريد من فرنسا كذلك في لبنان دعماً حرفياً لمبادئ الديمقراطية ومكافحة الفساد وتكريساً لنموذج السياسة الواقعية. الضغط لتطبيق القرارات الدولية، والالتحام بالإجماع الدولي لروحية البيان الثلاثي الموقعة هي نفسها عليه، وأن تحترم مقررات اللقاء الخماسي الأخير في قطر.
لم تعارض أميركا أبداً التمايز الفرنسي الاقتصادي والتجاري. لن تمنع حدوث الصفقات المتنوعة المجالات مع الروس والصين والايرانيين أبداً. تستفيد منها لأن في ذلك ورقة قوة فرنسية تكون حكماً على علم بها ومطلعة عليها، شرط أن لا تستعمل في الاستحواذ السياسي.
ترصد أميركا الصعود الصيني الهادئ. تطمح بالتزامن إلى سقوط روسي هادئ وإلى عودة أطلسية لفرنسا. تعمل كذلك في أن لا يتحول الفشل الفرنسي في أفريقيا الى نجاح روسي. تُوازن أميركا ذلك مع المملكة العربية السعودية وباقي الدول العربية من بعدها، بنفس المبدأ في أن لا يتحول العجز الفرنسي في لبنان إلى تغول إيراني اضافي، وأن لا يبتعد لبنان أكثر عن جناحه العربي. لذا، على فرنسا أن تفهم عدم قدرتها على استعادة دورها ووزناتها بمعزل عن الأطلسية في أوروبا وأفريقيا، وعن التحالف العربي في الشرق الأوسط ولبنان.
تعاملت فرنسا مع الانقلابين الأخيرين في النيجر والغابون ببراغماتية خاصة مع شيء من العشوائية، فلا تريد فرنسا اقتتالاً أهلياً محلياً، حيث انقسم الشارع في كل من النيجر والغابون إلى مؤيد للانقلاب ومعارض له
عتب لبناني ودور إيراني في أفريقيا
في معلومات حصرية جداً، أثيرت في جلسة قهوة ونقاش باريسية، ضمت مجموعة من المستشارين في الرئاسة الفرنسية، إضافة إلى بعض الدبلوماسيين، نقطتان أساسيتين:
الأولى: عتب لبناني وخاصة مسيحي على فرنسا حيث دار نقاش عميق وجدي جداً، حيث أصرّ المشاركون في النقاش على أهمية علاقة فرنسا بالدولة اللبنانية وكافة مؤسساتها ومواطنيها، بالشكل الذي يخدم وحدتها وتطورها وديمومتها النافعة المستقبلية. وشدد المجتمعون على الحرص الفرنسي على لبنان الدولة بكل فئاتها وخاصة المسيحيين والتي تربطها بهم علاقة وجدانية وإنسانية عابرة للحدود، وهي سابقة كذلك على مرحلة الانتداب ولدولة لبنان الكبير، وهي مستمرة وعلى نفس الوتيرة منذ الاستقلال، في الحاضر والمستقبل أيضاً. لكنهم ركزوا أيضاً على العناصر والأسباب التي أدت إلى ضياع المسيحيين وتشتتهم وهجرتهم. ليست فرنسا السبب في كل ذلك، بل هي انعكاس ونتيجة رهانات محلية وظروف دولية وإقليمية. تحاول فرنسا بكل قوتها مساعدة الدولة اللبنانية الواحدة الموحدة، وبكل فئاتها ومواطنيها، وتتماشى في ذلك مع الظروف الواقعية والراهنة، وتضغط للحفاظ على صيغتها وعيشها المشترك بجناحيها المسلم والمسيحي. هو الهدف، وأفضل خدمة لمسيحييه.
الثانية: معلومات عن ضلوع أجهزة إيرانية في أحداث وانقلابات أفريقيا الأخيرة حيث أظهرت إحداثيات مفادها علاقة جهات دولية خارجية في الانقلابات الأخيرة في افريقيا. هذا ما أحدث الانقلاب في السياسة الفرنسية، على ذاتها أولاً، في خطاب الرئيس “ماكرون” أمام الجسم الدبلوماسي، حيث أشار إلى ايران بالحرف والاسم. واعتُبرت هذه ثورة فرنسية تكتيكية لناحية ما قبلت به في الستاتيكو السابق مع النظام الإيراني. لذا، سجلت فرنسا امتعاضها الشديد على السياسة الإيرانية علناً في الملف اللبناني. تزامن ذلك مع تبادل الرسائل التطمينية بين كل من أميركا وايران، والتي تشجع على استمرارية التواصل، والتقدم في الحوارات والمساعي غير المباشرة . يلوح هذا الأمر إلى ضيق مساحة المناورة الفرنسية في لبنان وأفريقيا حيث إنها لم تعد في مكان يسمح لها بالتمايز في العلاقات مع إيران ولا مع غيرها. ولا تستطيع ذلك على حساب وجودها وحضورها. ولم تكن هذه الهجمة الفرنسية محض مصادفة، بل كانت مبنية على قرائن ودلائل ووقائع استخباراتية خاصة.
لقد حاول الرئيس ماكرون التعامل بموضوعية وواقعية حيث دعا سابقاً إلى التواضع اتجاه القارة الأفريقية وإلى تصحيح العلاقات معها. وشجع كذلك على تصحيح الصيغ والشبكات البالية في العلاقة مع القارة السمراء إلا أن الوقت والظروف لم تكن إلى جانبه. هو بارع في الاستراتيجية، ولكنه ليس حاذقاً في التكتيك أبداً.
إقرأ أيضاً: إفريقيا: شركات الأمن.. ترِثُ نفوذ أوروبا
كيف تعاملت فرنسا مع الأحداث الأفريقية؟
تعاملت فرنسا مع الانقلابين الأخيرين في النيجر والغابون ببراغماتية خاصة مع شيء من العشوائية، فلا تريد فرنسا اقتتالاً أهلياً محلياً، حيث انقسم الشارع في كل من النيجر والغابون إلى مؤيد للانقلاب ومعارض له. ولا تسعى كذلك إلى تحارب أفريقي قاري وخاصة بعد تفويض كل من مالي وبوركينا فاسو من قبل النيجر، حيث فشلت فرنسا في أفريقيا بسبب ثلاث عوامل:
– لعنة التاريخ.
– تغير الظروف الفرنسية والدولية.
– رفض الشباب الأفريقي والذي تعلم الديمقراطية في فرنسا أنظمة الحكم الحالية.
فهل يمكن أن تعود فرنسا إلى سابق عهدها في أدائها السياسي الخارجي؟ وهل تبدل في أولوياتها الدولية أم تستمر في صفقاتها والتي تنال منها ولن تعطيها أبداً؟