الجريمة السياسيّة والجريمة الأخلاقيّة

مدة القراءة 5 د


اجتمعت دول الاقتصادات العشرين الأقوى في الهند، وكان من ضمن مقرّراتها ضرورة إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية، وضرورة عدم التأثير على واردات الغذاء العالمي من روسيا وأوكرانيا. ولو عدنا إلى رسائل البابا فرنسيس لما وجدناه يفرّق بين الحرب ومنع الغذاء باعتبارهما جريمتين أخلاقيّتين. فالحرب فيها سفك للدماء، ومنع الغذاء أو التسبّب في ارتفاع أسعاره فيه تجويع للقسم الفقير من العالم. لكن بالمقياس العالمي فإنّ الحروب أحداثٌ سياسيّةٌ تُعالجُ أمام مجلس الأمن، بينما منع تصدير الغذاء والدواء أو اللقاحات من دولةٍ أو جهةٍ (الهند مثلاً منعت تصدير الأرزّ!) هو حقّ سيادي تستطيع الأمم المتحدة أن تتوسّط فيه، لكنّ الحكم عليه يظلُّ في الغالب حكماً أخلاقياً، وهذا ما تفيده تصريحات أنطونيو غوتيريش، الأمين العامّ للأُمم المتحدة. فالأمم المتحدة كانت طرفاً في الاتفاق الذي عقده الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتسهيل تصدير الأغذية من أوكرانيا لمدّة ستّة أشهر. وفي ذاك الاتفاق لعبت الأُمم المتحدة دوراً في الرقابة لإعانة الطرفين، وتجنُّب الشكاوى باعتبارها طرفاً محايداً.

اجتمعت دول الاقتصادات العشرين الأقوى في الهند، وكان من ضمن مقرّراتها ضرورة إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية، وضرورة عدم التأثير على واردات الغذاء العالمي من روسيا وأوكرانيا

هذه الفذلكة لا تعني أنّ الأمرين، السياسي والأخلاقي، منفصلان دائماً. وهناك أدلّةٌ على الانفصال وأخرى على الاتّصال. بدليل أنّ هناك على المستوى العالمي قانونين: القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني. فعندما تحدث الحرب بين دولتين يجري اللجوء إلى القانون الدولي والاحتكام إلى مجلس الأمن، وعندما تبلغ الأحداث درجة الكارثة الإنسانية في بلدٍ ما، سواء أكان الحدث طبيعياً مثل الزلازل في تركيا وسورية والمغرب أو صراعاً داخلياً وحرباً أهليّة وإرهاباً، يجري اللجوء إلى القانون الدولي الإنساني. وعلى هذا الأساس تدخّل الأميركيون والفرنسيون في ليبيا عام 2011، ثمّ تدخّلوا مع غيرهم في أفغانستان والعراق وسوريا ضدّ الإرهاب و”القاعدة” و”داعش”. وفي عام 2004 جرى تدخّل دولي في دارفور بالسودان عندما تفاقمت الجرائم العنصرية التي قام بها الجيش والميليشيات المتحالفة معه بالمنطقة (= جرائم الإبادة)، وهو الأمر الذي يتكرّر الآن، فتهدّد بعض الجهات بالتدخّل من جديد.

متى يصير التدخّل الأخلاقي مبرّرا؟

لا أحد يُنازع مجلس الأمن في حقّ التدخّل لفضّ نزاع بين دولتين مثل أذربيجان وأرمينيا أو روسيا وأوكرانيا. أمّا التدخّل ذو الجانب الأخلاقي فيثير الكثير من الاختلافات باعتباره يتحدّى سيادة الدول. لذلك يسلِّم النظام السوري بالتدخّل الإيراني والروسي لأنّه هو الذي استدعى الدولتين لمساعدته بما في ذلك ميليشيات الحزب اللبناني المصنوع من إيران، وكذلك الميليشيات العراقية والأخرى الأفغانية والباكستانية التي أتت بها إيران أيضاً، بينما يحتجّ كلّ يومٍ على التدخّلين الأميركي والتركي. وتركيا تتدخّل بحجّة أمن حدودها، وأمّا أميركا فبحجّة الاستمرار في مكافحة الإرهاب، والهدف غير المعلن: حماية الأكراد.

يقول البابا فرنسيس إنّه لا يتدخّل في الشؤون السياسية. لكنّه يلاحظ كما لاحظ المؤرّخ الراحل إريك هوبسباوم، أنّه في ثلثَي الحالات وأكثر يعجز مجلس الأمن عن حلّ النزاع أو حتى وقف إطلاق النار، بحيث تبلغ جرائم الحرب أبعاداً أخلاقيةً وإنسانيةً كارثيةً مثل الأوضاع في السودان واليمن الآن.

لا أحد يُنازع مجلس الأمن في حقّ التدخّل لفضّ نزاع بين دولتين مثل أذربيجان وأرمينيا أو روسيا وأوكرانيا. أمّا التدخّل ذو الجانب الأخلاقي فيثير الكثير من الاختلافات باعتباره يتحدّى سيادة الدول

يظهر العجز في مجلس الأمن عندما يكون أحد الأعضاء الخمسة الكبار داخلاً في النزاع بشكلٍ مباشرٍ مثل حالة الولايات المتحدة في الحرب على العراق (2003) وحالة روسيا في حربها الحالية على أوكرانيا (2022-2023).

في حرب أميركا على العراق ما استطاع مجلس الأمن اتّخاذ قرار بسبب استخدام فرنسا حقّ الفيتو، ومع ذلك تدخّل الأميركيون غصباً عن العالم كلّه، وفي الحرب على أوكرانيا ما استطاع المجلس التدخّل بسبب استخدام روسيا والصين حقّ الفيتو.

ما عاد البابا وتيار قويّ في الفلسفة المعاصرة يفرّق بين الجرائم السياسية والجرائم الأخلاقية، عندما تكون وراءها دول ويعجز النظام الدولي عن التصدّي للنزاع. وليست لدى البابا وفلاسفة السلام أوهام بشأن قوّة وفعّالية المقاربة الأخلاقية للمشكلات. لكنّهم استطاعوا منذ الحرب على العراق والجرائم التي حصلت خلالها وبعدها إثارة الرأي العامّ العالمي ضدّ الذين يرتكبون جرائم سياسية أو أخلاقية والعمل على تطوير إمكانيات مكافحتها من طريق الجمعية العامّة للأمم المتحدة، أو من طريق المحكمة الجنائية الدولية. أمّا الاستراتيجيون فيوجّهون النظر إلى اتّساع إمكانيات تعدّد الأقطاب. بيد أنّه ماذا يفيد التعدّد (البريكس مثلاً) ما دام ناجماً عن الصراع الدولي المتفاقم، ولا يمكن الوصول من خلال التعدّد إلى توسيع مجلس الأمن مثلاً.

إقرأ أيضاً: تحلُّل سوريا الأسد

التوجُّه الآخر الأكثر جدوى على المستوى العالمي والإنساني كما يرى الفلاسفة وكبار علماء الدين هو في الدعوة إلى معالجة المشاكل النوعية للبشرية ذات الأبعاد الأخلاقية مثل التلوّث البيئي والأوبئة والفقر والجوع وسلبيات العولمة وتغوّل التقنيّات الجديدة على إنسانية الإنسان. هي تستدعي نظاماً عالمياً أكثر عدالةً وشفافيّةً واستجابة. ولا شكّ أنّ الدول الكبرى هي التي تتسبّب من خلال اقتصاداتها وتقنيّاتها وأنظمتها بتفاقم المشكلات. ومع ذلك هم يأملون أن يجدوا استجابةً أكبر لأنّ الدول الكبرى متضرّرة أيضاً، وإن كانت الدول الوسطى والصغرى أكثر تضرّراً بكثير.

مواضيع ذات صلة

عودة “روكي”: جنون أميركا في ظلّ ترامب

كان هناك وقتٌ، في الزمان غير البعيد، حيث الانتخابات الأميركية كانت تُحكم بالمبادئ: كانت هناك برامج انتخابية، قيم، واحترام للمنصب. ثمّ جاءت سنة 2024، وقرّرت…

قوافل النّازحين… وفكرة “السّلام” المُلتبس

منذ 17 أيلول الماضي يوم شرعت إسرائيل في حربها ضدّ الحزب عبر تفجير أجهزة البيجرز والتوكي ووكي، بدأ النزوح الداخلي من جنوب لبنان وضاحية بيروت…

الكويت: تأكيد الهوية الوطنية لأهلها فقط..

على الرغم من الضجيج في المنطقة وأصداء أصوات الانتخابات الأميركية وما سبقها وتلاها، لا صوت يعلو في الكويت على صوت “تعديل التركيبة السكاّنية”، من خلال…

السّودان: إيران وروسيا تريدان قواعد عسكريّة

يغطّي غبار القصف الإسرائيلي على غزة ولبنان صور المأساة المروّعة التي تعصف بالسودان، أكبر دولة عربية من حيث المساحة. فقد اضطرّ حتى الآن خُمس السكان،…