مشهد لبناني ضيّق واستراتيجية إيرانية واسعة

2023-09-04

مشهد لبناني ضيّق واستراتيجية إيرانية واسعة


ردَّ الدكتور سمير جعجع في احتفالية الشهداء على الرئيس نبيه برّي وكلامه في احتفالية الإمام موسى الصدر. والفروق بين الخطابين والاحتفالين كبيرة وشاسعة. الدكتور جعجع يحاول ردَّ الهجمة لانتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، وهذا حقّه وواجبه. أمّا خطاب برّي فقد خصص لتسويق طرح الحوار من أجل انتخاب رئيس للجمهورية مع تمسّك بمرشح الثنائي سليمان فرنجية.
لكن خطابات حسن نصر الله المتتالية أخيراً فهي تأتي ضمن الاستراتيجية الإيرانية المستمرّة منذ حوالى أربعين عاماً للاستيلاء على الدول العربية في ما صار يُعرف بالشرق الأوسط، ومن ضمنها بالطبع لبنان. ما راعوا في العراق ولا في سورية ولا في فلسطين أيّ اعتبار لا للسكّان ولا للسلطات. أمّا في لبنان، وبسبب وجود المسيحيين فإنّهم سعوا دائماً إلى ترتيب الشكل بالحصول على حليفٍ مسيحيّ يضعونه تحت إبطهم فيلتهي بالحفاظ على مصالحه الخاصّة أو يهجم على السُّنّة مثلما فعل الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، بحجّة استعادة حقوق المسيحيين منهم!

إبداع الرئيس برّي
احتفالية الصدر هذا العام ما تميّزت باقتراح الرئيس برّي العجيب فهو مبدعٌ دائماً لهذه الناحية، ومن يكُن حليفاً لحسن نصر الله فهو محتاجٌ إلى الإبداع المستمرّ لكي يبقى على قيد الحياة سياسياً. الجديد في احتفال الصدر هذا العام هو وجود المندوب الأميركي هوكستين (بالنطق الأميركي، وهوكشتاين بالنطق الألماني لأنّه يهودي من أصل ألمانيّ). هوكستين أو هوكشتاين زعم أنّه جاء إلى لبنان للتوسّط في ترسيم الحدود البرّية بعد البحريّة بين لبنان وإسرائيل! لديه قصّة نجاح مع نصر الله في ترسيم الحدود البحرية، فهل طمع في البرّ كما في البحر؟ لا مطمع في ذلك لأنّ الحزب يلعب منذ عام 2000 لعبةً مزدوجة.

احتفالية الصدر هذا العام ما تميّزت باقتراح الرئيس برّي العجيب فهو مبدعٌ دائماً لهذه الناحية، ومن يكُن حليفاً لحسن نصر الله فهو محتاجٌ إلى الإبداع المستمرّ لكي يبقى على قيد الحياة سياسياً

فمزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي تحتلّها إسرائيل منذ عام 1967 هي أرض لبنانية نحتاج نحن اللبنانيين بالطبع إلى سلاح الحزب لتحريرها(!)، وهي في الوثائق الدولية أرضٌ سوريّةٌ وما طلب الحزب المقاوم قطّ من السوريين التنازل عنها لأشقّائهم اللبنانيين. سلاح الحزب مسألة استراتيجية كبرى تكاد تكون مثل النووي. وهوكشتاين لن ينجح حتى في إزالة نقاط الخلاف على الخطّ الأخضر، لكنّه أتى لطمأنة الحزب إلى أنّ السياسات الأميركية لم تتغيّر على الرغم ممّا جرى في التجديد للقوات الدولية بمجلس الأمن. ففي العام الماضي وبمقتضى قرار مجلس الأمن صار من حقّ قوات اليونيفيل القيام بدوريّات ٍ بدون التنسيق مع الجيش اللبناني. وقد قاموا بدوريّاتٍ مفاجئة فثار عليهم “الأهالي” وفقدوا جنديّاً إيرلندياً قتلاً! يقول أنصار الحزب: لو نسّقوا لما قُتل منهم أحد. ويقول خصوم الحزب: ما داموا ينسّقون مع الحزب (عفواً مع الجيش!) فسيظلّ الحزب في أقصى انتشاره في مناطق وجود الجيش والقوات الدولية، وهذا مخالفٌ للقرار الدولي رقم 1701 (2006). الطريف أنّه عندما أصرّ الأميركيون بمجلس الأمن هذا العام على بقاء نصّ العام الماضي المضاف، فإنّ وزير خارجية لبنان اعتبر ذلك مساساً بالسيادة (عدم التنسيق مع الجيش)، لكنّه على الرغم من عدم التغيير أعلن موافقته فيما بعد على القرار! وهو ما كان ليجرؤ على العودة إلى لبنان، لولا أنّ هوكشتاين رافقه أو سبقه للطمأنة. قال هوكشتاين للذين اجتمعوا به علناً أو سرّاً: من مصلحة الحزب الحفاظ على الهدوء في الجنوب، ولن تحرجه القوات الدولية فلا دوريّات ولا من يحزنون، لكنّ إزعاج الإسرائيليين كما حصل في الشهرين الماضيين في عملية “الخيمة” المشهورة سيعني غارات إسرائيلية، وسيعني إمكان تعطّل الحفر للتنقيب عن الغاز والبترول في البلوك رقم 9، وقد بشّر الرئيس برّي اللبنانيين بأنّهم مع بدء عمليات الحفر صاروا أغنياء بعد نضاله عشر سنواتٍ من أجل ذلك. لكن إذا كان ذلك صحيحاً فكيف أيّها السيّد الرئيس توافق على وضع إدارة الصندوق السيادي الاستثماري بيد عدوّك جبران باسيل؟!

استراتيجية إيرانية واسعة
المشهد اللبناني ضيّق ضيّق. والاستراتيجية الإيرانية واسعة شاسعة، وكذلك الأميركية. وخلال خمسين عاماً وبالصبر الاستراتيجي الإيراني حصل الإيرانيون من الأميركيين دائماً على ما يريدون. لكنّ الطرفين مختلفان في التكتيك. الإيرانيون يريدون صفقةً شاملةً مع أميركا تشمل النووي والشرق الأوسط كلّه، والأميركيون يريدون خطوةً في مقابل خطوة. جرى اتفاق تبادل الأسرى بين أميركا وإيران، وحصل الإيرانيون مع أسراهم على مليارات الدولارات التي كانت محتجَزة لدى عددٍ من الدول التي تؤثّر عليها الولايات المتحدة. ويريد الأميركيون في مقابل صفقة التبادل خفض التخصيب ووقف التوتّر على الحدود بينهم وبين الميليشيات الإيرانية في سورية، والتهدئة في فلسطين مع الجهاد الإسلامي (وحماس) في نواحي الضفة الغربية ومع غزّة، وهما تنظيمان تمون عليهما جمهورية إيران الإسلامية التي تريد تحرير فلسطين عاجلاً وإن كان هذا الأمر يمكن تأجيله إن غضّ الأميركيون النظر! الأميركيون يضغطون على الحدود العراقية – السورية في منطقة البوكمال فيقطعون خطوط الإمداد بين طهران وبيروت. ويردّ الإيرانيون ليس بالقذائف والمسيّرات على القاعدة الأميركية في التنف فقط، بل وبإثارة العشائر العربية (الأصيلة طبعاً!) على الأكراد بشمال سورية وشرقها، وهي المنطقة التي يضمن فيها الأميركيون بعسكرهم وقواعدهم السيطرة الكردية عليها.

لا تنتهي المحاولات والمفاوضات بين الأميركيين وإيران (وإسرائيل) عند هذا الحدّ. فقد جاء إلى الضاحية قائد الحرس الثوري، ثمّ جاء نائبه، وأخيراً جاء وزير خارجية إيران بحجّة احتفالية الإمام الصدر. ومباشرةً بعد مقابلة عبد اللهيان لحسن نصر الله استدعى الأخير قادة الجهاد الإسلامي وحماس إليه. الشائع من جهة إسرائيل أنّ الحديث جرى عن توحيد ساحات المقاومة التحريرية: عمليات استشهادية في الضفة الغربية ثمّ قذائف من جهة غزّة، فإذا نشبت الحروب الصغيرة فإنّ نصر الله مستعدٌّ للذهاب إلى الحرب الكبيرة. هل يصرّ الأميركيون على مطالبهم من إيران في جبهة الجنوب وفي سورية، فتصبح وحدة الجبهات تهديداً حقيقياً لإسرائيل وقودُهُ الفلسطينيون؟! المطروح أو المطلوب من أميركا وإسرائيل إيرانياً أن تتوقّف الغارات الإسرائيلية على الداخل السوري، وأن يتحرّر خطّ الإمداد الإيراني عند البوكمال، وأصغر المطالب أن تتوقّف دوريات القوات الدولية في الجنوب، سواء بالتنسيق أو بدون التنسيق مع الجيش اللبناني.
إنّ الراجح أن يوافق الأميركيون ولو بالتدريج على كلّ المطالب، فهم مهتمّون جدّاً بالتهدئة في سنة الحملات الرئاسية الأميركية مهما كلَّف أمرها من تسوياتٍ وتنازلات. ويبقى مطلبٌ واحدٌ موضع مساومة: رئاسة الجمهورية في لبنان. فهل يوافق الأميركيون على إعطاء الحزب سليمان فرنجية كما أعطوه عون، أم يتوافقون على قائد الجيش الذي قدّم أوراق اعتماده للطرفين في عدّة مناسبات، والمعارضة اللبنانية ليست ضدّه؟!

إقرأ أيضاً: أحداث المنطقة وحكمة السعودية

أطمئن جعحع
أريد في خاتمة هذا المقال المتشائل أن أطمئن الدكتور جعجع أو أُبشّره بما قد لا يكون لاحظه في حديثٍ لوزير خارجية إيران من لبنان، إذ قال الإيراني لا فُضَّ فوه: إنّ الإيرانيين اتّفقوا مع السعوديين على عدم التدخّل في الشأن اللبناني الداخلي! وبالطبع يفي الإيرانيون بوعودهم دائماً والسنوات الأربعون أو الخمسون الماضية تقدّم عشرات الأدلّة على حيادهم ومسالمتهم وموضـوعيّتهم، وآخـرها الزيارات الإيرانية الثلاث المعلنة للضاحية، وتصوَّر يا دكتور جعجع أنّ عبد اللهيان على الرغم من أنّه لا يتدخّل في الشأن اللبناني عرض أن يمدّنا بالكهرباء التي حرمنا منها حليفهم جبران باسيل طوال عقدين!
في روايةٍ عن نهايات الحرب العالمية الأولى للروائي الألماني آريا ريمارك بعنوان: “كلّ شيء هادئ في الميدان الغربي” أنّ وقف إطلاق النار أُعلن، وراح جنود الطرفين على سائر الجبهات يحتفلون ويتعانقون. لكنّ الجندي الألماني “إريك” قُتل خلال الاحتفالات بحلول السلام برصاصةٍ طائشة! تعدّدت الأسباب والموت واحدُ!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@

مواضيع ذات صلة

خدمة قدّمها خطاب خامنئي

تختصر خطبة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في تأبين حسن نصرالله، كلّ العلل التي أصابت لبنان، ولم تزل.   دعوته للّبنانيين أن “قاوموا”، مصحوبةً بلغة…

يتغيّر اللّاعبون ويبقى الشّرق الأوسط نفسه

لا تزال الضحايا السياسية تتهاوى من واشنطن بعد عام على طوفان الأقصى من طهران وصولاً إلى دمشق ومعهم آلاف الضحايا من اللبنانيين والفلسطينيين.   عام…

عام على 7 أكتوبر: حروب التّفاسير و”مكانك راوح”

بعد عام كامل على عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة حماس في غلاف قطاع غزة، وجرّت حرباً إسرائيليةً وحشيةً على الشرق الأوسط برمّته، لا على…

5 أسابيع حاسمة في تاريخ الشّرق الأوسط

تجري الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني المقبل. يفصل الشرق الأوسط عن ذلك أقلّ من 5 أسابيع تبدو ناظمة لحسابات إدارة الرئيس جو بايدن،…