“إن ننسَ أيّها السادة فلن ننسى الذين استشهدوا كي نبقى نحن. أن ننساهم تلك هي الخطيئة المميتة”. كلمات شارل مالك خلّدها رفاق الشهداء، شهداء المقاومة اللبنانيّة التي ضمّت أحزاباً وتنظيمات عدّة هبّوا شبابها منذ ذاك الثالث عشر من نيسان 1975 للدفاع عن لبنان… أسماؤهم وصورهم محفورة في ساحة الاحتفالات في معراب التي تتحوّل في يوم الشهيد إلى ساحة للشهداء يتقدّمهم بشير الجميّل. وفي المقابل، ترتفع لائحة تضمّ قافلة أخرى من الشهداء، شهداء ثورة الأرز الذين انضمّوا إلى قافلة الشهداء يتقدّمهم رفيق الحريري.
شهداء لبنان
إنّه أيلول الشهداء. أمس كان يومهم في معراب. حملت أمّهاتهم صورهم. “صورن اللي معلّقة ع الحيطان”. عانقنها وكأنّهم أطفال. وقف آباؤهم على الرغم من ثقل السنين والوجع لتخليد ذكراهم. ولا أقول للاحتفال باستشهادهم. فهم لم يلِدوهم للاستشهاد، إنّما للحياة. وأولئك الشباب لم يكونوا عشّاق شهادة. إنّما عشّاق الحياة. كانوا يستعدّون لخوض غمارها في المدرسة والجامعة. ولكنّهم لم يتردّدوا في ترك كلّ شيء في سبيل قضيّة آمنوا بها دفاعاً عن لبنان حتى الموت… لذلك يُكرَّمون. وإنّهم لمستحقّون.
كان استشهادهم من أجل لبنان الذي تعرّض للخطف والاحتلال والوصاية. أقدموا حين تراجعت الدولة وتقاعست عن القيام بالمهمّة الموكلة إليها، وهي حماية الوطن والمواطن. كانت غائبة كما كتب قبل أيام في “الشرق الأوسط” الصحافي الكبير سمير عطالله معلّقاً على ما نشر رئيس تحرير الصحيفة عن صيف 1982 في ثلاث حلقات. كتب عطالله: “كيفما تتطلّع في الساحة اللبنانيّة (في تلك المرحلة)، ترَ أميركا والاتحاد السوفيتيّ وإسرائيل وأوروبا، وتجد أنّ هناك غائباً واحداً لا قرار له، ولا إرادة، ولا وجود، وهو الدولة اللبنانيّة. القادة الفلسطينيون يتصرّفون كأنّ لبنان محافظة، وسوريا تتصرّف كأنّ لبنان قضاء صغير ومحتقَر في كلّ الحالات”. وأضاف: “يكاد المشهد يتكرّر حرفيّاً اليوم، إذ تبدو الدولة اللبنانيّة الفريق الأكثر ضعفاً واحتقاراً والأقلّ نفوذاً”.
لبنان مخطوف
الشهادات التي نشرها الزميل غسان شربل عن ذاك الصيف الملتهب بالاجتياح الاسرائيليّ أكّدت المؤكّد، وهو أنّ لبنان كان مخطوفاً منذ ما قبل 1975. كما هو مخطوف اليوم. خاطف الأمس كان أقوى من الدولة. فدمّرها. وخاطف اليوم يُهيمن على الدولة ويمنع قيامها. ويستمرّ حزب القوّات أول المقاومين من أجل تحرير الدولة من هيمنة “حزب السلاح” (بحسب تعبير الزميل الدكتور رضوان السيّد).
إنّه أيلول الشهداء. أمس كان يومهم في معراب. حملت أمّهاتهم صورهم. “صورن اللي معلّقة ع الحيطان”. عانقنها وكأنّهم أطفال. يقف آباؤهم على الرغم من ثقل السنين والوجع لتخليد ذكراهم
الاستحقاق المعلّق على حبال الصراعات
ميشال عون، الذي تسبّبت حروبه وطموحاته الرئاسية بسقوط العديد من الشهداء، أبى إلّا أن يسلّم البلاد للفراغ. كان من المفترض أن يكون للبنان رئيس منذ سنة. فالمهلة الدستوريّة لانتخاب رئيس بدأت في الأوّل من أيلول 2022. بيد أنّه لم يكن متوقّعاً أن يجري الانتخاب في موعده. ولم يكن متوقّعاً أن يدعو رئيس المجلس النيابي نبيه برّي إلى جلسات متتالية ومفتوحة لانتخاب رئيس بحسب الدستور. فالمعركة بدَت، منذ البداية، بين مشروعين استراتيجيَّين:
– مشروع الخروج من الانهيار وإعادة بناء دولة الاقتصاد والسياحة والتجارة والازدهار والتصالح مع المحيط العربي والعالم.
– ومشروع دويلة السلاح ودولة الفقر والتجويع والعزلة والعداء للمحيط العربيّ والعالم.
كما أصبح معلوماً، فقد كان إصرار الثنائي الشيعي على فرض مرشّحه مرشّحاً أوحد، وتعطيله جلسات الانتخاب وتصويته بالورقة البيضاء، التي تخفي مشروعاً أسود، سبباً لتعليق الاستحقاق على حبال الصراعات الإقليميّة والدوليّة المستمرّة منذ عقود. خفّف اتّفاق بكين من تفجّرات الصراع الإقليميّ، بيد أنّه لم يُزِل أيّاً من جبهاته. والاتّفاق النوويّ الموعود ما يزال بعيد المنال. وجعل الثنائي الشيعيّ الاستحقاق أسير مبادرات فرنسيّة ضائعة حائرة بين مصالحها في لبنان وإيران والدول العربيّة.
ليس اشتراط الرئيس نبيه برّي بالأمس حواراً لسبعة أيام يدعو بعدها إلى جلسات مفتوحة لانتخاب رئيس، سوى استمرار في فراغ الرئاسة الأولى الذي زاد من نفور الرئاسة الثانية، وتقهقر سلطة الرئاسة الثالثة، وأنتج فراغاً في حاكمية مصرف لبنان سيتبعه بعد أشهر فراغٌ في قيادة الجيش.
إقرأ أيضاً: برّي: المحاوِر الأول والدائم
لبنان الشهيد
منذ يومين كانت الذكرى الثالثة بعد المئة لتأسيس “دولة لبنان الكبير”، وما يزال الشهيد فيها شهيد فئة أو طائفة أو حزب. إنّها مأساة الشهيد والشهادة في لبنان. إنّها مأساة لبنان. والسبب أنّنا لم نبنِ دولة. لم نبنِ وطناً. لم نكُن شعباً. بقينا شعوباً. في الماضي قاتلنا بعضنا بعضاً من أجل الصلاحيات. وعندما اتّفقنا على إنهاء الحرب في الطائف فُرضت علينا الوصاية السوريّة. وقامت دويلة السلاح مقابل دولة البناء. ربحت الدويلة جولة باغتيال رفيق الحريري. وخطفت الدولة. وهي تصرّ على خطفها خدمة لمشروع راعيها الإقليميّ. في حين أنّ الوطن يحتضر. شعبه جائع. كوادره تهاجر. شبابه يحلم بمستقبل خارجه. أمّهات يشجّعن أبناءهنّ على الهروب منه، من الوطن الذي تحوّل سجناً كبيراً لأبنائه. مؤسّساته دُمّرت. اقتصاده دُمّر. انهار نظامه الماليّ. قضاته يتوقّفون عن العمل بسبب غياب “مقوّمات العيش والعمل بكرامة”. أساتذته يبحثون عن طريق للهجرة بدل أن ينشغلوا بالأبحاث لتطوير علومهم. وجامعات تبحث عن طريقة للاستمرار بدل تطوير الأبحاث فيها. مستشفياته تعاني من أجل شفاء المرضى. أطبّاؤها هجروها. كذلك الممرّضون فيها… ولا أمل بقيامة قريبة للبنان.
إنّها ذكرى شهداء واستشهاد وطن…