لا تبدأ السلطة السياسية في لبنان عملاً ثمّ تنهيه بالكامل أو كما يجب. الزواريب والعراقيل هي سمة مشتركة في كلّ ملفّ أو قضيّة تُمسك بها هذه السلطة، وآخر هذه الملفّات كان “التدقيق الجنائي” في حسابات مصرف لبنان الصادر عن شركة “ألفاريز إند مارسل” الأميركية، التي وقّعت عقداً مع وزارة المالية في 17 أيلول من عام 2021 (هو عقد جديد بعد تعثّر تنفيذ العقد الأوّل).
في حينه، اعتُبر إصدار التقرير المذكور شرطاً رئيسيّاً من أجل حصول لبنان على مساعدات خارجية، وقالت وزارة المالية آنذاك إنّ الشركة ستقدّم “التقرير المبدئي” للوزير يوسف الخليل ضمن مهلة 12 أسبوعاً من تاريخ مباشرة فريق الشركة عمله. لكنّ التقرير صدر متأخّراً نتيجة العراقيل التي تعمّد خلقها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وبدأت تتكشّف تباعاً أسباب تلك العراقيل مع دخول الولايات المتحدة على الخطّ، فارضة عقوبات على سلامة وأقاربه ومعاونيه، ودخول القضاء الأميركي في نيويورك على الخطّ أيضاً، كما كشفت صحيفة “فايننشال تايمز” الأحد.
أفرجت وزارة المالية عن التدقيق أخيراً، وقبل ذلك أخفته في الأدراج خوفاً من “الفضيحة”. لكنّ الفضيحة الكبرى كانت في التقرير نفسه، لا في ما يحويه من معلومات فحسب. إذ ركّز على تجاوزات سلامة وسلوكه في تسيير عمل المصرف المركزي، ولم يخبر الرأي العامّ اللبناني الكثير عمّا حصل في السنوات الثلاثين الماضية، وكيف ضاعت ودائع اللبنانيين، أو كيف بدّدت الدولة ما استلفته من المصارف.
لا يستبعد فحيلي أن يكون ثمّة اتفاق خفيّ وضمنيّ بين سلامة وأركان السلطة كان يقضي دوماً بأن يختاروا ممثّليهم في المركزي لقاء تركه يتصرّف كما يريد
التقرير هو عبارة عن قرابة 300 صفحة باللغة الإنكليزية، وربّما هذا ما عقّد أكثر محاولات وسائل الإعلام الإضاءة على تفاصيله كما يجب أو بشكل أوسع.
في هذا الصدد، سطّر خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي جملة من الملاحظات بعد اطّلاعه على التقرير كاملاً، فأكّد أنّ السلبيات في تقرير “ألفاريز إند مارسل” أكثر من الإيجابيات. أمّا الملاحظات فأفردها فحيلي على الشكل التالي:
1- هو تقرير مبدئي، أو محاولة لزرع “بذرة مساءلة” ومحاسبة، ربّما تقود إلى محاكمات، لكنّ هذا الأمر ليس أكيداً، خصوصاً إن كانت تلك “البذرة” ستتطوّر لتصبح “شجرة” فتثمر محاسبة.
2- تعترف شركة “ألفاريز إند مارسل” تعرض عملها لقيود وعراقيل كثيرة أمام حصولها على المعلومات والبيانات المالية المطلوبة لإنجاز تقريرها، وكان المصرف المركزي وحاكمه رياض سلامة يتحصّن بالسرّية المصرفية تارة، وتارة أخرى يتقاعس عن ذلك لأسباب تقنيّة وما أشبه ذلك.
3- هناك علامات استفهام عن مناقبيّة الشركة نفسها وعملها. لقد عبّرت الشركة في تقريرها عن العراقيل والقيود التي واجهتها، ثمّ استمرّت في عملها مع علمها المسبق بأنّ التقرير سيصدر مشوّهاً وناقصاً من حيث المعلومات الدقيقة المفيدة للهدف المطلوب (التدقيق الجنائي)، فلماذا استمرّت بتنفيذ العقد؟ بل أكثر من ذلك، يعتبر فحيلي أنّ الشركة، بسبب تلك العراقيل والقيود، فرضت فقرة ضمن العقد كانت بمنزلة “إبراء ذمّة لها”، وذلك من أجل حماية نفسها ورفع المسؤولية عنها، تجاه تلك المعلومات المفقودة.
في نظر فحيلي من بين أكثر الأمور أهميّة التي استطاعت شركة “ألفاريز إند مارسل” إثباتها في تقرير تدقيقها الجنائي بالأدلّة، ولو أنّ تلك الحقيقة كانت بديهية ومعروفة من قبل الجميع
4- حصلت الشركة على محاضر اجتماعات المجلس المركزي لمصرف لبنان ودقّقت في تفاصيلها واستنتجت من خلال تلك المحاضر أنّ “المتحدّث الملك” في جميع اجتماعات المجلس المركزي، هو رياض سلامة. اكتشفت الشركة أنّ سلامة لم يواجَه بأيّ اعتراضات من أعضاء المجلس في كثير من القرارات التي اتُّخذت باسم المجلس، أي باسم نواب الحاكم الأربعة والمديرين العامّين في وزارة الاقتصاد والماليّة ومفوّض الحكومة… وهذا في نظر فحيلي “يرفع علامات استفهام عن شكل المجلس المركزي الحالي وتكوينه”. وعليه يسأل: “هل هؤلاء أعضاء صُوَريّون فقط أم أعضاء فاعلون؟”. إن كانوا صوريّين فمن الأجدى الذهاب إلى تأسيس مجلس مركزي مختلف أكثر كفاءة. وهذا من مسؤولية السلطة السياسية.
لكن لا يستبعد فحيلي أن يكون ثمّة اتفاق خفيّ وضمنيّ بين سلامة وأركان السلطة كان يقضي دوماً بأن يختاروا ممثّليهم في المركزي لقاء تركه يتصرّف كما يريد، أي بمعنى آخر: “عيّنوا من تريدون وأنا أفعل ما أريد”.
يستدلّ فحيلي على ذلك من خلال الصلاحيّات الواسعة والحرّية اللتين منحهما سلامة لنفسه منذ تعيينه في عام 1993 حتى خروجه من المركزي في تموز 2023 الماضي. كلّ هذه المدّة كان سلامة الـSolo الوحيد في مصرف لبنان.
يسأل فحيلي عن الجهة التي أعطت رياض سلامة كلّ هذا الفائض من القوّة والسلطة اللتين مارسهما على السياسيين والهيئات الاقتصادية وحتى الإعلاميين وفريقه في مصرف لبنان. وهذا في نظر فحيلي من بين أكثر الأمور أهميّة التي استطاعت شركة “ألفاريز إند مارسل” إثباتها في تقرير تدقيقها الجنائي بالأدلّة، ولو أنّ تلك الحقيقة كانت بديهية ومعروفة من قبل الجميع.
إقرأ أيضاً: الطاقة والنقل “نصف الأزمة”: دولارات “المركزيّ” للكهرباء تنير لبنان 24 عاماً
5- لا ينتهي التقرير مع صدور النسخة المبدئية. فالمسؤولية اليوم، بحسب فحيلي، انتقلت إلى حاكم مصرف لبنان بالوكالة الجديد وسيم منصوري وبقيّة نواب الحاكم. هؤلاء يستطيعون الإعلان أمام الرأي العامّ اللبناني والشركة نفسها عن استعدادهم للتعاون من أجل توفير كلّ المعلومات والبيانات المفقودة في التقرير من أجل الخروج بتقرير جنائي كامل. فحيلي يختم ملاحظاته بالقول: “كان يُفترض أن يعلن الحاكم الجديد نيّته التعاون مع الشركة” منذ نشر النسخة المبدئية من التقرير، “لكنّه حتى اللحظة لم يفعل!”.
لذا القول إنّ التقرير أُنجز أو انتهت مفاعيله هو “خلاصة مغلوطة”، لأنّ هذه التفاصيل تؤكّد أنّ التقرير فُتح فعليّاً بعد الكشف عن التقرير لا العكس… فهل تُكمل السلطة السياسية ما بدأته “زوراً” وبالتهديد والوعيد؟ أم تكتفي بهذا القدر من البحث والتقميش وتضيع الأمور كما هي الحال في كلّ الملفّات في لبنان؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@