كما انتهى فجأة تمرّد “طبّاخ بوتين” في 24 حزيران الماضي، على قيادة بوتين للحرب في أوكرانيا، فيما كانت جحافله الزاحفة على مسافة 200 كلم من موسكو، حين استسلم من دون مقاومة للرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو الحليف الوثيق لبوتين، متعهّداً بتسليم سلاحه للجيش الروسي، وهو ما حدث فعلاً عقب أسبوعين من انقضاء التمرّد، إذ تسلّم الجيش الروسي أكثر من ألفَي قطعة سلاح ثقيل من مقاتلي فاغنر، منها دبّابات وآليّات أخرى، إضافة إلى أكثر من 2,500 طن من الذخيرة، وحوالى 20 ألف قطعة سلاح خفيف، وتاركاً الخيار لمرتزقته إمّا الانضمام إلى صفوف الجيش، أو الالتحاق بمنفاه المفترض في بيلاروسيا.
فجأة عاد يفغيني بريغوجين من الباب الخلفيّ، لمناسبة انعقاد القمّة الروسية الإفريقية في مدينة سانت بطرسبورغ في 27 و28 تموز، حيث يسعى بوتين إلى توسيع نفوذ روسيا في القارّة السمراء بمنح الغذاء (تعويضاً عن الحبوب الأوكرانية) وإلغاء أكثر من 20 مليار دولار من الديون، وبيع السلاح، وتقديم المعونات الأمنيّة، طارداً على وجه الخصوص بقايا الاستعمار الفرنسي.
لقد توقّع مسؤولون أميركيون، وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن، بعد قمّة الناتو في هلسنكي (فنلندا)، أن يقضي بريغوجين مقتولاً، لا شكّ في ذلك، على يد أجهزة بوتين الذي لن يطيق بقاء طبّاخه السابق يسرح ويمرح، ويجتاح الفضاء الإعلامي بأخباره وغرائبه، وذلك إمّا بالسمّ أو أدوات تقليدية أخرى، مثل السقوط من طابق شاهق، أو طعنة بيد مجهول في شارع مظلم. لكنّ ما تكشّفت عنه الأيام شكّل مفاجأة أكبر من التمرّد نفسه، ومن إجهاض التمرّد لأسباب غير مفهومة، إذ تتالت الأنباء باتّجاه معاكس. فسيّد الكرملين الذي كان هدّد بمعاقبة متمرّدي فاغنر بوصفهم خونة للبلاد، لا سيّما إثر إسقاط المتمرّدين ستّ طوّافات وطائرة نقل عسكرية، استقبل زعيم التمرّد بريغوجين نفسه ومعه 35 من قادة فاغنر في الكرملين، حيث حاول بوتين، على مدى ثلاث ساعات، إقناع قادة المجموعات بالابتعاد عن زعيمهم بريغوجين، واستمرار عمل المنظمة خارج روسيا. وبحسب المتحدّث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف، فإنّ بوتين استعرض في اجتماع موسكو “أعمال الشركة” على خطّ المواجهة في أوكرانيا و”أحداث التمرّد في 24 حزيران”. وقال بيسكوف إنّ القوات شبه العسكرية، أي فاغنر، أكّدت استعدادها للقتال من أجل روسيا. بالمقابل، “استمع بوتين إلى تفسيرات القادة، وعرض عليهم مزيداً من خيارات التوظيف ومن احتمالات الاستخدام القتالي”.
كان بوتين يحتاج إلى فاغنر، قبل التمرّد، في الداخل الروسي كقوّة موازنة للجيش الروسي، أو رديفة بمعنى ما، لحماية النظام نفسه، من أيّ تمرّد في صفوف الجنرالات الساخطين أو الطامحين
هل يحتاج بوتين إلى فاغنر؟
كان بوتين يحتاج إلى فاغنر، قبل التمرّد، في الداخل الروسي كقوّة موازنة للجيش الروسي، أو رديفة بمعنى ما، لحماية النظام نفسه، من أيّ تمرّد في صفوف الجنرالات الساخطين أو الطامحين. وما زال يحتاج إليها في الخارج، كأداة من أدوات السياسة الخارجية (انظر مقال “فورين أفيرز” في 12 أيار الماضي: Why Putin Needs Wagner?). ما حدث في 24 حزيران الماضي ضرب الشقّ الأوّل في الصميم. وأكثر ما أقلق بوتين هو العلاقة التي نسجها بريغوجين مع بعض كبار الجنرالات مثل القائد السابق للقوات الروسية في سوريا، ثمّ في أوكرانيا سيرغي سوروفيكين لأنّه بذلك فقدت فاغنر دورها في موازنة الجيش، فيما لم يتحرّك بوتين عندما كان قائد فاغنر ينتقد بشدّة وزير الدفاع سيرغي شويغو أو قائد الأركان وقائد القوات في أوكرانيا فاليري غيراسيموف. لذا لم يتسامح مع الجنرالات المتّهمين بالتعاطف مع بريغوجين، لكن قد يستطيع التسامح مع المتمرّد نفسه، خاصة إن لم يكن البديل منه ملائماً. فقد تداولت وسائل الإعلام اسم ضابط المدفعية السابق، أندري تروشيف، وهو مقاتل سابق في أفغانستان والشيشان، وأسهم في تأسيس فاغنر، وهو القائد العملياتي للمجموعة، ونال لقب بطل الاتحاد الروسي بسبب إنجازاته العسكرية في سوريا، لا سيّما في مواجهة تنظيم داعش في مدينة تدمر. وكان له دور أساسي في معارك باخموت في أوكرانيا. لكنّ سجلّه النفسيّ المضطرب كمدمن على الكحول، يعاند ترقيته بدل بريغوجين. ففي عام 2017، دخل المستشفى في سانت بطرسبورغ، وهو في حالة سكر شديد، ومعه أكثر من خمسة ملايين روبل نقداً، أي ما يعادل أكثر من 55 ألف دولار، مع خرائط عسكرية لسوريا، وتذاكر سفر، وإيصالات أسلحة جديدة. كان غير قادر على تعريف نفسه في المستشفى، بحسب تقرير “التلغراف” البريطانية.
باقية وتتمدّد في إفريقيا
يمكن تفسير ظهور بريغوجين مجدّداً ولو مؤقّتاً، بحاجة الكرملين إلى فاغنر في إفريقيا، معطوفاً عليها عدم قدرة الكرملين على استبدال بريغوجين في الوقت الحالي على الأقلّ. ففي الأيام التي تلت التمرّد، وصل موفدون روس إلى الدول التي ينتشر فيها مرتزقة فاغنر، ولا سيّما سوريا، وحاولوا تطهير الصفوف هناك من مؤيّدي بريغوجين، وتعزيز أدوار الموالين لبوتين ومواقعهم في هذه المنظمة، التي لم تعد مجرّد شركة أمنيّة تتولّى أعمالاً أمنيّة محدودة الطابع والتأثير مثل حماية الشخصيات السياسية والمواقع الاستراتيجية، بل إنّ فاغنر تتولّى منذ سنوات خلت تغيير المعادلات في دول إفريقية عدّة، لا سيّما دعم الانقلابيين في مالي، وفي النيجر أخيراً، وتغليب كفّة جهات على أخرى، في إفريقيا الوسطى، وربّما في السودان من خلال تقديم الدعم والمشورة لقوات الدعم السريع في وجه الجيش السوداني.
لكنّ ما حدث لاحقاً أنّ بريغوجين نفسه أعلن في حوار مع Afrique Média TV، وهي قناة إخبارية موالية للكرملين تستهدف البلدان الإفريقية الناطقة بالفرنسية، ومرتبطة بمجموعة فاغنر، استمرار القتال في البلدان الإفريقية التي يوجدون فيها بالفعل. وقطعاً لأيّ شكّ، أكّد أنّه “لم يكن، ولن يكون هناك، تخفيض في برامجنا في إفريقيا”. ومع أنّ اتحاد روسيا لا يعترف بقانونيّة المجموعات العسكرية خارج نطاق الدولة، مثل مجموعة فاغنر، لكنّ سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي طمأن زبائن روسيا في إفريقيا إلى أنّه على الرغم من الأحداث الأخيرة، أي تمرّد بريغوجين، ستبقى فاغنر في إفريقيا.
يمكن تفسير ظهور بريغوجين مجدّداً ولو مؤقّتاً، بحاجة الكرملين إلى فاغنر في إفريقيا، معطوفاً عليها عدم قدرة الكرملين على استبدال بريغوجين في الوقت الحالي على الأقلّ
ليس تصفية بل إعادة هيكلة
بحسب تقرير معهد بروكينغز، لا يمكن لموسكو التخلّي عن خدمات فاغنر. فخلال السنوات الأخيرة، وبعيداً عن دورها الفعّال في حرب أوكرانيا، كان لها انتشار عسكري وأمنيّ في سوريا وليبيا وموزامبيق ومالي وإفريقيا الوسطى والسودان، مع إشاعات عن دور لها في الكونغو الديمقراطية. أمّا أعمال الدعم اللوجستي، وتبييض الأموال، والتهريب، واستخراج الموادّ الخام، والتضليل المعلوماتي بوساطة شبكة واسعة من الشركات والوسطاء، فتمتدّ على مساحة عدد أكبر من الدول.
فضلاً عن ذلك، فإنّ لكلٍّ من جهاز الأمن الفدرالي FSB والاستخبارات العسكرية GRU، علاقات معقّدة مع فاغنر، ولهما نفوذ في عمليات المجموعة خارج روسيا. وهذه الأجهزة تكسب المال، مثل الكرملين، من العمليات التجارية لفاغنر، سواء أكانت هذه الأموال تذهب إلى جيوب متنفّذين أو تغذّي قسماً من ميزانيات الأجهزة نفسها. لقد استخدم بريغوجين أموالاً من عقود الدولة الروسية تصل إلى حوالي 20 مليار دولار، لتمويل المشاريع الأمنيّة والتجارية والإعلامية في الخارج. كما أنّ الإدارة المتشابكة لمشاريع مموّلة من الدولة ومشاريع بريغوجين شبه الخاصّة تنطوي أيضاً على مصالح مترابطة للغاية لمجموعة واسعة من الجهات الفاعلة المؤثّرة في النظام. ولذا، كما هو الحال في روسيا، قد يجري إغلاق بعض شركات فاغنر، لكنّ بعضها الآخر سيخضع لتعديلات إدارية فقط. لكن لا الكرملين ولا أجهزة الاستخبارات يريدان أن يفقدا الدخل الذي توفّره فاغنر ولا أهميّتها كأداة، حتى لو أرادا السيطرة عليها بشكل أفضل.
بدلاً من تطهير فاغنر من مؤيّدي بريغوجين، يمكن إعادة تسمية المجموعة في إفريقيا وتقسيمها إلى عدّة كيانات منفصلة. إنّ تقطيع فاغنر بهذه الطريقة، بحسب تقرير بروكينغز، من شأنه أن يمنح الدولة الروسيّة سيطرة أفضل على وكيلها في المناطق التي ينشط فيها، حتى مع استمرار الغموض الذي يكتنف الشبكة، وتضارب المصالح بين الكرملين وأجهزة الاستخبارات والأمن الروسية المتنافسة. فعلى عكس سوريا، حيث كان للجيش الروسي وجود رسمي منذ عام 2017، فإنّ إرسال “مستشارين عسكريين” رسميين إلى الدول الإفريقية، بدلاً من الوكلاء الخاصّين، يثير جملة من المضايقات القانونية والدبلوماسية لروسيا والدول الإفريقية المستفيدة من التدخّل الروسي.
إقرأ أيضاً: انقلاب بريغوجين أو تلقين درس لبوتين؟
أمّا في أوكرانيا، ومنذ كانون الأول 2022، أي قبل أكثر من 7 أشهر من تمرّد فاغنر، فقد ظهرت حوافز قويّة لدى الجيش الروسي لإخضاع قوات فاغنر للقرار العسكري المركزي، والقضاء على فاغنر كقوّة مستقلّة، وتحييد بريغوجين المتفلّت والمزعج بشكل متزايد. لكن يبدو حتى اللحظة أنّ الحظّ ما يزال يبتسم للطبّاخ السابق، على الرغم من الأشواك الكثيرة. على الأقل حتى الآن..
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@