فشل نوّاب حاكم مصرف لبنان الأربعة في إحداث أيّ اختراق بحركتهم “التصحيحية”. فلا التهديدات بالاستقالة نفعت مع السلطة، ولا التستّر خلف “لاشفافيّة” منصّة “صيرفة” استطاع أن يستميل الرأي العامّ. فيما الجميع وقف ضدّ نوّاب الحاكم الأربعة على الرغم من أحقيّة ما يطالبون به.
ربّما التوقيت أو الظروف لم تسعف نوّاب الحاكم، الذين أضحوا اليوم أقرب خطوة إلى القبول بالأمر الواقع وطلب النجدة عبر مخرج يحفظ “ماء الوجه”، علّه يعيد الأمور إلى نصابها، وتحديداً إلى ما قبل كتاب التهديد بالاستقالة.
ما سيحصل في الأيام القليلة المقبلة بات متوقَّعاً: جلسة مجلس الوزراء، التي دعا إليها رئيس مجلس النواب، لن تفضي إلى تعيين حاكم جديد. بعدئذٍ قد يتقدّم نائب الحاكم الأوّل وسيم منصوري باستقالته، وربّما يلحق به النائب الثاني، ولاحقاً البقيّة، أو ربّما يتقدّمون باستقالة جماعية.
لكن ماذا بعد ذلك؟
على الأرجح أنّ نواب الحاكم سيعودون إلى العمل، وذلك وفق مبدأ “تسيير المرفق العامّ”، على الرغم من الكلام الذي يُنقل عن نائب الحاكم الأول بالتواتر أنّه سيغادر المصرف المركزي إلى منزله ولن يعود أبداً، وربّما يغادر البلاد لعدم تحميل الطائفة الشيعية مسؤولية ما قد يتحمّله.
بدأ نوّاب الحاكم في خطواتهم الأولى بالمطالبة بتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي، ثمّ انتهوا بعرض الخدمات التي كان يقدّمها سلامة، الذي يشتكون منه ومن تصرّفاته اليوم
إذا حصل هذا السيناريو واستقال نوّاب الحاكم ثمّ عادوا أدراجهم، يعني ذلك أنّهم أصبحوا في حلّ من المسؤولية (أقلّه في نظرهم). لكن في المقابل يعني أيضاً أنّهم عادوا إلى حيث تركهم رياض سلامة، أي إلى لعبة شراء الوقت لصالح السلطة، عبر التعاميم التي أرساها على مدى 3 أو 4 سنوات، وعبر منصة “صيرفة” أيضاً.
هنا رُبّ سائل يسأل: ولِمَ هذه “العراضات” كلّها؟ ألم يكن من الأفضل لو جرى التسلّم والتسليم بهدوء ومن دون هذه الجلبة التي تسبّبت لنواب الحاكم بأضرار جسيمة مسّت بسمعتهم وأثّرت على مصداقيّتهم؟
الجواب هو نعم. كان يمكن أن يحصل الأمر بسلاسة ومن دون كلّ هذه التهديدات والوعود الفارغة، لكن يبدو أنّ لنواب الحاكم الأربعة حسابات أخرى مختلفة. ربّما حاولوا تقمّص دور رياض سلامة في مخاطبة السلطة السياسية، من خلال البيانات وفي العلن… لكنّهم وقعوا في الفخّ.
أين أخطأ نوّاب الحاكم؟
فلنعد بشريط الأحداث إلى الخلف من أجل استقراء ما حصل. بدايةً طالب نوّاب الحاكم بتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان عبر كتاب سُرّب في الإعلام (“أساس” كان أوّل من نشره).
قال نوّاب الحاكم الأربعة بذلك إنّهم لا يريدون تحمّل المسؤولية، بل يريدون “طربوشاً” اسمه “حاكم جديد” يحمل عنهم ما لا طاقة لهم على تحمّله، ومن أجل ذلك هدّدوا بالاستقالة. ردود الفعل حيال هذه الخطوة لم تكن لصالحهم 100%. تشكّك البعض في جدوى خطوتهم هذه، فيما البعض الآخر اتّهمهم بالتماهي مع أركان السلطة من أجل فرض التمديد لرياض سلامة… فسقطت أوّل محاولة.
بعد ذلك انتقل نواب الحاكم إلى الخطة “ب”، وهي التوجّه إلى مجلس النواب من أجل طلب الإصلاحات. طالب نواب الحاكم بإقرار موازنة عام 2023 بـ”صفر عجز”، وطالبوا أيضاً بتشريع قوانين “الكابيتال كونترول” و”هيكلة المصارف” و”التوازن المالي”… فنسوا أو ربّما تناسوا أنّ نصف المجلس يرفض التشريع ويعتبر أنّ المجلس هيئة ناخبة. بل نسوا أو ربّما تناسوا أنّ تشريع هذه القوانين الإصلاحية (لو حصل بالفعل)، سينفي الحاجة إليهم أصلاً، لأنّ إقرارها سيضع البلاد في مكان آخر تماماً، وقد يصبح فيه الفراغ في حاكمية مصرف لبنان أمراً ثانوياً.
نسوا أيضاً أنّ ما لم يقدّمه الرئيس نبيه برّي إلى المجتمع الدولي، يستحيل أن تقدّمه إلى 4 موظّفين بدرجة ممتازة قامت السلطة نفسها بتعيينهم بهذه المناصب!
قال نوّاب الحاكم الأربعة بذلك إنّهم لا يريدون تحمّل المسؤولية، بل يريدون “طربوشاً” اسمه “حاكم جديد” يحمل عنهم ما لا طاقة لهم على تحمّله، ومن أجل ذلك هدّدوا بالاستقالة
مطالب نواب الحاكم الأربعة (وهي محقّة نعيد ونكرّر) أحرجت السلطة التي شعرت بالتمرّد. وهنا دخل التهديد المضادّ على الخطّ: بدأنا نسمع باحتمال ملاحقة نواب الحاكم في حال استقالوا، وباحتمال إجبارهم على العمل حتى لو استقالوا… فبدأ مسلسل التراجع بعد فشل الخطوة الثانية.
“صيرفة” ورقة التوت الأخيرة
شعر نواب الحاكم بالخطر المحدق، فانتقلوا مرّة أخرى إلى خطّة جديدة هي الخطة “ج”. خطّة مع بعض الإغراءات، لكن على حساب الناس هذه المرّة ومن جيوب المودعين. فقد عرض نواب الحاكم على الحكومة وعلى البرلمان وقف منصّة “صيرفة” باعتبار أنّها غير شفّافة وتفتقر إلى المصداقية (وهو صحيح)، لكنّهم لم يخبروا الرأي العامّ أين تكمن لاشفافيّتها ولامصداقيّتها؟ ولماذا صمتوا كلّ هذا الوقت عنها؟ ولماذا كانوا يردّدون في مجالسهم الخاصّة أنّهم هم الجهة التي “هذّبت” “صيرفة” وعملها، وهم الجهة التي أرست استقرار الدولار، ودفعت بعمل المنصّة إلى أقرب قدر ممكن من المعقوليّة؟!
فجأة تحوّلت صيرفة إلى “آفة”، وما عادوا يريدون الاستمرار بها. بل يريدون وقفها مقابل إطلاق منصّة أخرى أكثر شفافيّة، ويريدون تمويل الحكومة بـ200 مليون دولار شهرياً ولمدّة 6 أشهر من أجل دفع رواتب القطاع العامّ، أي تمويلها بمبلغ 1.2 مليار دولار… لكن من أين؟
يعرض نواب الحاكم تمويل السلطة من التوظيفات الإلزامية، بشرط حصولهم على “غطاء”، عبارة عن قانون يصدر من مجلس النواب. تلك التوظيفات التي لطالما تغنّى نواب الحاكم في مجالسهم الخاصة أنّهم حافظوا عليها لأنّها “خطّ الدفاع الأخير”، وأنّهم فعلوا المستحيل من أجل إبعاد يد رياض سلامة الذي أفرط في استخدامها من خلال دعم السلع والتدخّل في السوق.
من فمك أُدينك
لكن حتى هذا العرض السخيّ لم يغرِ السلطة، ويقال إنّ عدداً من النواب في البرلمان طالبوا نواب الحاكم بالاستمرار بعمل “صيرفة” ورفضهم المسّ بالتوظيفات الإلزامية. بينما المضحك في كلّ هذا المشهد كان التالي: فيما كان نواب الحاكم يعرضون على الحكومة تقديم أموال مشروطة من التوظيفات الإلزامية (أموال المودعين)، كانوا في الوقت نفسه يسرّبون في الإعلام نصوصاً للكتب التي كانوا يرسلونها إلى وزارة المالية والحكومة، من أجل تبرئة ذممهم من عمليات الصرف الممنهج من التوظيفات نفسها. أي بمعنى آخر، فإنّ ما كان نواب الحاكم يحذّرون منه منذ مدّة، باتوا اليوم يعرضونه بأنفسهم على السلطة!
بشكل أكثر وضوحاً، بدأ نوّاب الحاكم في خطواتهم الأولى بالمطالبة بتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي، ثمّ انتهوا بعرض الخدمات التي كان يقدّمها سلامة، الذي يشتكون منه ومن تصرّفاته اليوم!
من خلال هذا السيناريو كلّه، يبدو أنّ جلّ ما يريده نواب الحاكم هو “الغطاء”. هم يرون أن لا مشكلة إن مُسّت التوظيفات الإلزامية، لكنّ المشكلة أنّهم لا يملكون الغطاء القانوني الذي يسمح لهم بذلك… فتناسوا أنّ كلّ ما هو استثنائي في لبنان يمسي ثابتاً، وأنّ السلطة من دون تشريع صرفت من تلك التوظيفات ما يفوق 20 مليار دولار… فكيف سيكون الحال إذا وُجد التشريع؟
حينما ارتضى هؤلاء أن يكونوا نوّاباً لحاكم مصرف لبنان قبل 3 سنوات، ظنّوا أنّ الحاكمية هي امتيازات و”برستيج”، ونسوا أنّها أيضاً مسؤولية. أمّا اليوم فيبدو أنّهم عادوا وتنبّهوا لتلك المسؤولية بعدما انتشوا بالامتيازات…. والله أعلم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@