لم يدنُ مفكّر أو ناقد أو باحث، من التراث العربي والإسلامي، ناقداً ومناقشاً ومتشكّكاً، إلا وامتدّت أصابع الاتّهام والتخوين والتكفير إليه. حدث هذا مع أدونيس ومع كثر غيره مثل نصر حامد أبو زيد، فرج فوده، طه حسين، حسين مروة، واللائحة تطول.
عام 1973، أصدر أدونيس أشهر كتبه: “الثابت والمتحوّل: بحث في الإبداع والاتّباع عند العرب”. حرّك الكتاب مياهاً راكدةً منذ قرون، فطفا فوق السطح الغثّ والسمين، وما يقبله عقل وما لا يقبله.
أخضع أدونيس التراث “المقدّس” للعقل، ولم يُخضع العقل للتراث والنصّ. ضريبة ذلك يحفظها التاريخ البشري عن ظهر قلب. تناولت الحلقة الأولى سيرة أدونيس الذاتية وأبرز المحطّات في حياته، ومنها مجلّة “شعر” وما أحدثته في الثقافة والفكر العربيَّين وفي الشعر.
في الحلقة الثانية محاولة لنقاش كتابه “الثابت والمتحوّل” مع محاولة مشابهة في مقاربة “في الشعر الجاهلي” لطه حسين الذي سبق كتاب الأوّل بنصف قرن، للذكرى وعلّ راكداً في حياتنا الثقافية والفكرية يتحرّك.
كتابان صدرا في القرن العشرين. لم يُحدث كتاب صدر في عصرهما ما أحدثاه في الحياة الأدبية والثقافية والفكرية في بلادنا. الأول “في الشعر الجاهلي” لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والثاني هو “الثابت والمتحوّل: بحث في الإبداع والاتّباع عند العرب”.
الثابت والمتحوّل
يقول أدونيس في كتابه “الثابت والمتحوّل: بحث في الإبداع والاتّباع عند العرب”: “إنّ الثقافة العربية، بشكلها الموروث السائد، ذات مبنى ديني، أعني أنّها ثقافة اتّباعية، لا تؤكّد الاتّباع وحسب، وإنّما ترفض الإبداع وتدينه، فإنّ هذه الثقافة تحول، بهذا الشكل الموروث السائد، دون أيّ تقدّم حقيقي. لا يمكن، بتعبير آخر، كما يبدو لي، أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي، إذا لم تتهدّم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي، وتتغيّر كيفية النظر والفهم التي وجّهت هذا الفكر، ولا تزال توجّهه”. بهذا رسم أدونيس الخطوط العريضة لمعركته.
مع طه حسين كانت بداية. ومع أدونيس كانت بداية جديدة. وقبلهما ينضح التاريخ العربي ببدايات كثيرة، لكنّها لا تصل إلى مآلات جديدة ولا إلى فتح آفاق رحبة وواسعة
يعرّف أدونيس الثابت في إطار الثقافة العربية بأنّه “الفكر الذي ينهض على النصّ، ويتّخذ من ثباته حجّةً لثباته هو، فهماً وتقويماً، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النصّ، وبوصفه، استناداً إلى ذلك، سلطةً معرفيةً”. ويعرّف المتحوّل بأنّه “إمّا الفكر الذي ينهض، هو أيضاً، على النصّ، لكن بتأويل يجعل النصّ قابلاً للتكيّف مع الواقع وتجدّده، وإمّا أنّه الفكر الذي لا يرى في النصّ أيّة مرجعية، ويعتمد أساساً على العقل لا على النقل”.
وفق هذين المصطلحين، خاض أدونيس غمار الغوص في حركة الثقافة العربية-الإسلامية. خلص إلى أنّ “النقل” انتصر على “العقل” في الفكر الديني الإسلامي، وفُرض هذا الانتصار على الثقافة العربية والإسلامية عموماً، التي بدورها رفضت الشعر الذي لا يخدم الدين.
الثابت انتصر على المتحوّل، ولا يزال منتصراً حتى أيامنا هذه. لكنّ أدونيس فتح ثغرةً في جدار الثابت، وصار بوسع المرء منّا أن يرى إلى تراثنا من زاوية جديدة. التراث العربي الإسلامي، للباحثين والمؤرّخين والمتخصّصين والكتّاب والمفكّرين، لم يعد هو نفسه التراث قبل أدونيس. لكنّنا ما زلنا “مكانك راوح”. قال أدونيس ذات حوار إنّ ما قام به مجرّد بداية. قبله بنصف قرن، عُدّ “في الشعر الجاهلي” لعميد الأدب العربي طه حسين، بدايةً أيضاً.
“في الشعر الجاهلي”
عام 1926، أصدر الدكتور طه حسين، كتابه القيّم “في الشعر الجاهلي”، وشكّ فيه في الشعر الجاهلي وفي كلّ ما يمتّ إليه بصلة. شكّ في القحطانيين والعدنانيين وفي لغتَيهما، نافياً أن تكون اللغة العربية، لغة قريش، لغةً موحّدةً للفريقين. آنذاك، دعا طه حسين إلى معرفة الجاهليين وحياتهم من “القرآن الكريم”، لأنّه الأصدق والأدقّ، بينما تشكّك في أشعار الجاهليين وفي وجودها أصلاً قبل الإسلام، ونسب البعض منها إلى عصور متأخّرة، بعد الإسلام، وقال إنّها من وضع الواضعين في العصر العباسي الذين كانوا يقرضون الشعر وينسبونه إلى شعراء جاهليين.
عدّد طه حسين أسباب انتحال الشعر، ومنها: الصراعات السياسية والعصبية والدينية. ما طرحه طه حسين شكّل طوال القرن العشرين قضية القضايا الثقافية والأدبية والفكرية وحتى التاريخية.
الثابت انتصر على المتحوّل، ولا يزال منتصراً حتى أيامنا هذه. لكنّ أدونيس فتح ثغرةً في جدار الثابت، وصار بوسع المرء منّا أن يرى إلى تراثنا من زاوية جديدة
ما زالت القضية مطروحةً إلى يومنا هذا، وما زال كتّاب كثر يخوضون غمار الكتابة عنها، مؤيّدين ورافضين، داعمين ومكفّرين، وما زلنا نسمع إلى اليوم أصداء تكفير طه حسين. يُجمع كثر على أنّ طه حسين تناول الشعر الجاهلي، ليصل لاحقاً إلى النصّ القرآني، ولذا حاربته السلطة وقمعته وطردته من الجامعة وحاكمته. وللأسف ما زلنا ندرّس المعلّقات في مدارسنا ومناهجنا التربوية على أنّها درر جاهلية، وكأنّ طه حسين لم يمرّ في عالمنا ولم يكتب ولم ينشر وما وصلتنا مؤلّفاته.
بين أدونيس وطه حسين
اتُّهم طه حسين بتبنّي مناهج أوروبية في دراسته وتناوله الشعر الجاهلي، وقد أكّد هو ذلك بتبنّيه مذهب ديكارت النقدي في الشكّ، واتُّهم أيضاً بالتأثّر بالمستشرقين وعلى رأسهم مرغليوت وهوار، ولم ينفِ هو إعجابه بهما.
التهمة نفسها وُجّهت إلى أدونيس، ويتّهمه كثر بالتأثّر بعالم الاجتماع والفيلسوف أوغست كونت، في الثابت والمتحوّل. آخرون اتّهموه بتطبيق مادّية الفيلسوف كارل ماركس في أجزاء من كتابه دون غيرها.
ثمّة من يتّهمه بأنّه لم يستوعب التراث العربي الذي قرأه، وذهبوا أبعد من ذلك بكثير. في المقابل، يرى كثر أنّ أدونيس قرأ التراث من داخل التراث، فهو ابنه وابن القصيدة العربية والتراث الصوفي الطويل والتاريخ الإسلامي.
انطلق طه حسين من حالة التردّي والجمود والانحطاط على المستويات الثقافية والفكرية والحضارية في عصره، وما آلت إليه اللغة العربية والشعر العربي، وقال ما قال صادقاً، وقد دفع ثمن كلامه غالياً، وبذل في سبيله جهداً جهيداً.
أدونيس أيضاً انطلق من حالة الجمود التي تعيشها الثقافة العربية الإسلامية، ومن القيود المفروضة على النصوص الإبداعية، شعراً ونثراً، وحاول فتح أفق جديد أمام الشعر العربي والثقافة العربية الإسلامية عموماً، ولا يزال يحاول ويقول ويشرح ويناقش ويحاضر ويساجل، بعد نصف قرن على صدور كتابه الأشهر.
إقرأ أيصاً: أدونيس… أبو الحداثة الشعريّة (3/1)
مع طه حسين كانت بداية. ومع أدونيس كانت بداية جديدة. وقبلهما ينضح التاريخ العربي ببدايات كثيرة، لكنّها لا تصل إلى مآلات جديدة ولا إلى فتح آفاق رحبة وواسعة. ما زلنا تحت رحمة النصوص، غثّها وسمينها، وما زلنا نقدّس الثابت ونمجّد الماضي، وكأنّنا بلا مستقبل.
ما زال الثابت ثابتاً، بينما المتحوّل لا يجرؤ في مجالات كثيرة على أن يطلّ برأسه أحياناً. النقل سيّد على العقل، وعلى حياتنا كلّها بمناحيها كافّة. هل هو قرن من أجل لا شيء كما كتب مرّةً الصحافي الراحل غسان تويني؟ إلى كم بداية نحتاج بعد لنصل إلى برّ أمان ما؟
*غداً في الحلقة الثالثة: أدونيس وغزّة.. مثله مثل الأنظمة يعيش أزمة
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@