“حانوكا” اليهوديّ: احتفال في الإليزيه واقتحام في الأقصى

مدة القراءة 6 د


يستمرّ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون في التخبّط السياسيّ في ملفّ الحرب الإسرائيليّة على غزّة والصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ. فهو يتّخذ الموقف ونقيضه، ويرتكب الخطأ تلو الآخر. آخر الأخطاء إقامة ذكرى “حانوكا” اليهوديّ في قصر الإليزيه. وهو ما عرّضه لحملة انتقادات واسعة شملت كلّ التيارات السياسيّة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

“حانوكا” أو عيد الأنوار
“حانوكا” أو عيد الأنوار هو أحد الأعياد اليهوديّة الكبيرة. فيه يُحيي اليهود ذكرى استعادة الهيكل وحرّيّة العبادة فيه. حدث ذلك في القرن الثاني قبل المسيح، وتحديداً في عام 165 ق.م. حين قاد اليهود المكّابيّون تمرّداً ضدّ السَلوقيّين واستعادوا الهيكل من الملك أنطيوخوس الذي فرض الثقافة اليونانيّة وعبادة الإله “زوس” في الهيكل. بعد استرداده أضاء المتمرّدون الزيت في الهيكل. لم تكن كميّته تكفي لأكثر من ليلتين. إلا أنّه بقيَ مشتعلاً لثماني ليالٍ. وهو ما يعتبره اليهود أعجوبة. ومن هنا الشمعدان اليهوديّ ذو الثمانية رؤوس. يحتفل اليهود بإضاءته كلّ سنة إحياءً للذكرى. وهذه السنة أُضيئت الشموع بين 7 و15 كانون الأول. كلّ يوم شمعة. وقد أضاء الحاخام الأكبر في باريس الشمعة الأولى في قاعة الاحتفالات في قصر الإليزيه وإلى جانبه الرئيس الفرنسيّ.

درع “اللورد جاكوبوفيتس” اليهوديّ لماكرون
أثار الاحتفال موجة ردود واسعة ركّزت بأغلبيّتها على نقطتين: مخالفة مبدأ علمانيّة الجمهوريّة والتخبّط السياسيّ الذي يعانيه ماكرون منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول).

تأتي إقامة ذكرى “حانوكا” في قصر الإليزيه استرضاءً لليهود الفرنسيين الذين انتقدوا عدم مشاركة ماكرون في المسيرة ضدّ معاداة الساميّة التي انطلقت في باريس منذ حوالي شهر

أدريان كانتينان، النائب عن تيار “فرنسا غير الخاضعة”، علّق على الاحتفال بالقول: “الليلة، تحوّل قصر الإليزيه إلى مكان عبادة. وصباح الأحد (سيُقام) القدّاس باللاتينيّة؟”. من جهته النائب الاشتراكي دافيد أسولين انتقد ماكرون بالقول إنّه “يُبحر بالنظر (دون بوصلة)، لا مبدأ ولا خطّ قيادة”.
لوران جاكوبيللي، النائب عن “التجمّع الوطنيّ” اليمينيّ المتطرّف، قال: “ربّما أراد ماكرون إصلاح الصورة التي أعطاها للمواطنين اليهود بعدم المشاركة في المسيرة” (ضدّ معاداة الساميّة). كما اعتبر رئيس جمعية رؤساء بلديات فرنسا الاحتفال “سابقة تناقض العلمانيّة”.
عكس ردّ الإليزيه وفريق ماكرون حال الضعف والارتباك في التعامل مع الأحداث منذ 7 أكتوبر. فقد أوضح قصر الإليزيه أنّ المناسبة كانت لتقديم “درع جاكوبوفيتس” اليهوديّ للرئيس الفرنسيّ تقديراً لدفاعه عن معاداة الساميّة. “وهو درع يُعطى لرؤساء وملوك. وقد أُعطي للمستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل في 2013 وللملك فيليب الأول في 2016”. ولكن لماذا إقامته في هذا اليوم بالذات؟ ولماذا لم يقتصر على تقديم “درع جاكوبوفيتس” دون الاحتفال بـ “حانوكا”؟ وزير الداخليّة جيرار دارمانان، في مقابلة تلفزيونية على “فرانس إنفو”، بدا مرتبكاً في الإجابة على مثل هذه الأسئلة. وقال إنّ “للرئيس الحقّ والحرّيّة في فعل ما يراه مناسباً”.

احتفالات دينيّة لغايات سياسيّة
في ولاية ماكرون تبدو المشاركة في الاحتفالات الدينيّة أو إقامتها وسيلة لغايات سياسيّة. كما يبدو أنّ مبدأ علمانيّة الدولة وجهة نظر. ففي شهر أيلول شارك الرئيس الفرنسيّ في القدّاس الذي احتفل به البابا فرنسيس في مدينة مرسيليا التي زارها لاختتام “اللقاءات المتوسطيّة 2023”. حينها وُجّهت إليه انتقادات لهذه المشاركة التي تناقض مبدأ علمانيّة الدولة. إلا أنّ الرئيس الفرنسيّ أراد من خلال إصراره على الانتقال إلى مرسيليا للقاء البابا وحضور القدّاس في ملعب المدينة حثّ الفاتيكان على تنظيم زيارة رسميّة للبابا لدولة فرنسا التي لم يزُرها منذ انتخابه، خاصّة أن هذا الأخير أصرّ على التأكيد قبل شهر من زيارته أنّها لمرسيليا وليس لفرنسا.

في ولاية ماكرون تبدو المشاركة في الاحتفالات الدينيّة أو إقامتها وسيلة لغايات سياسيّة. كما يبدو أنّ مبدأ علمانيّة الدولة وجهة نظر

تأتي إقامة ذكرى “حانوكا” في قصر الإليزيه استرضاءً لليهود الفرنسيين الذين انتقدوا عدم مشاركة ماكرون في المسيرة ضدّ معاداة الساميّة التي انطلقت في باريس منذ حوالي شهر بدعوة من رئيسَي الجمعيّة الوطنيّة ومجلس الشيوخ، وشاركت فيها رئيسة الحكومة إليزابيت بورن، كما شارك فيها رؤساء سابقون ووزراء ونواب حاليون، إضافة إلى العديد من الشخصيات السياسيّة من كلّ الأطراف السياسيّة باستثناء اليسار المتطرّف.

ضغوط إسرائيليّة
لكنّ القضيّة تبدو أبعد من ذلك. ففي كلّ مرّة يحاول الرئيس الفرنسيّ اتّخاذ موقف من الحرب الإسرائيليّة على غزّة ينسجم مع موقف فرنسا التاريخيّ من الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ ومع قِيَم الجمهوريّة الفرنسيّة في احترام الشرعيّة الدوليّة ومبادئ حقوق الإنسان وقوانين الحرب… يتعرّض لضغوط إسرائيليّة. وفي كلّ مرّة يقترب من الدعوة الصريحة إلى وقف فوريّ للنار تتحرّك الدبلوماسيّة الإسرائيليّة لثَنيه عن ذلك. فمنذ أيام وعلى هامش مشاركته في المؤتمر العالميّ للمناخ في دُبي، انتقد ماكرون الحرب الإسرائيليّة التي “ستستغرق 10 سنوات” للقضاء على حماس. وقال إنّ الردّ على هجوم حماس لا يكون بالقضاء على منطقة بأكملها وتدمير البنى التحتيّة المدنيّة فيها، وإنّ أمن إسرائيل لا يمكن ضمانه إذا قام “على حساب أرواح الفلسطينيين، وبالتالي استياء كلّ الرأي العامّ في المنطقة”. وقد أتبع ماكرون موقفه هذا بالتصويت لمصلحة قرار وقف إطلاق النار في غزّة في مجلس الأمن الدوليّ بعد استعمال الأمين العام للجمعيّة الأمميّة المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدّة. عِلماً أنّ القرار لم يُقرّ بعدما استعملت الولايات المتّحدة الأميركيّة حقّ النقض – الفيتو لمنع صدوره.

إقرأ أيضاً: انحسار الإسلاميّين واستمرار “الإسلاموفوبيا”

تزامناً مع احتفال “حانوكا” في قصر الإليزيه كانت “جماعات الهيكل” المتطرّفة في إسرائيل تقوم باقتحام ساحات المسجد الأقصى بمرافقة قوات الأمن الإسرائيليّة لإضاءة الشعلة الأولى. كان حريّاً بالرئيس الفرنسيّ التنديد بهذ الاقتحام الذي يتكرّر منذ عقود، خاصّة في عيد “حانوكا”، والضغط على الحكومة الإسرائيليّة المتطرّفة لعدم السماح لتلك الجماعات بصبّ الزيت على النار المشتعلة في كلّ الأراضي الفلسطينيّة التي تهدّد أمن المنطقة بأكملها من المحيط الهندي إلى البحر المتوسط مروراً بالبحر الأحمر، خاصّة أنّ قضيّة المسجد الأقصى محورية في الصراع، ليس بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، إنّما بين اليهود وعموم المسلمين.

 

لمتابعة الماتب على تويتر: Fadi_ahmar@

مواضيع ذات صلة

ما الذي حدث في القاهرة بين وفدي فتح وحماس؟

بعد جهدٍ مصري حثيث، تم التوصل إلى اتفاق بين وفدي فتح وحماس على تشكيل لجنة سُميت بلجنة الإسناد المجتمعي لإدارة غزة بعد انتهاء الحرب. القول…

إيران تطلب السّلام… هل نطق ظريف بلسان الحرس؟

للتدخّل الروسي في سوريا قصّة رواها فيما بعد الأمين العامّ الراحل للحزب، ومختصرها أنّ قائد فيلق القدس في ذلك الحين، قاسم سليماني، سافر إلى موسكو…

المعارك في سوريا تمهّد للتّفاوض على إضعاف إيران؟

يرتسم الشرق الأوسط الجديد انطلاقاً من التطوّرات العسكرية الدراماتيكية في سوريا. يطرح تحريك الميدان السوري المفاجئ والمعقّد الأبعاد علامات استفهام حول صيرورة المواجهات الدائرة ومصير…

بعد الحرب.. هل من دروس تعلّمناها؟

“لو كنت تدرين ما ألقاه من شجنِ… لكنتِ أرفق من آسى ومن صفحَ غداة لوّحت بالآمال باسمة… لان الذي ثار وانقاد الذي جمحَ فالروض مهما…