بدأت الدول الأوروبية بسط سيطرتها على العالم باستعباد الأفارقة. مارست التجارة بالإنسان الإفريقي بريطانيا وإسبانيا بصورة خاصة.
بعد الاستعباد انتقلت هذه الدول إلى الاستعمار، وانضمّت إليها ألمانيا وبريطانيا.
خلال مرحلتَي الاستعباد والاستعمار، مارست الدول الأوروبية من بريطانيا حتى روسيا شرقاً، سياسة اللاسامية ضدّ اليهود. تمثّل ذلك في سلسلة عمليات الاضطهاد والتمييز العنصري، وتجسّد في ثقافة الكراهية والدونيّة التي دفع اليهود ثمنها غالياً جداً.
لمّا وصلت النازية تُوّجت هذه العمليات بما وصفته “الحلّ الأخير”. كان ذلك يعني التطهير العرقي – الديني الكامل جسدياً.
مشكلة إسرائيل أنّها فشلت حتى الآن في تسويق هذا المنطق عالمياً. فهي في القانون الدولي دولة احتلال تتمرّد على قرارات الأمم المتحدة وعلى المواثيق الدولية، وتعتبر نفسها فوق هذه القرارات والمواثيق لأنّها تتعارض مع مصالحها، وتالياً مع الإرادة الإلهية
تبدأ اليوم إسرائيل في فلسطين (وفي قطاع غزة بعد الضفة الغربية بصورة خاصة) من حيث وصلت الدول الأوروبية وألمانيا تحديداً، أي من “الحلّ الأخير”، وذلك بعد حوالي 80 عاماً.
يترجم ذلك ما يجري في غزة من قتل جماعي (وخاصة الأطفال، رجال الغد) ومن تدمير منهجي للبيوت والأحياء والمدن. ويترجم ذلك أيضاً ما تتعرّض له مدن الضفة الغربية المحتلّة من فصل عنصري ومصادرة أملاك وتدمير بيوت. كما تترجمه حالة الاستعباد التي فُرضت على فلسطينيّي 1948 الذين آثروا عدم الهجرة والعيش تحت الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي العنصري المباشر لفلسطين.
إسرائيل: إستعباد… واستعمار
حوّلت إسرائيل قطاع غزة بالقوة العسكرية إلى “غيتو” محاصر من البرّ والبحر والجوّ. وحوّلت الضفة الغربية إلى ما يشبه جنوب إفريقيا ثانية حيث مارست فيها كلّ أنواع التمييز العنصري والديني. وهي تجربة شديدة المرارة يعرف يهود أوروبا، وخاصة يهود ألمانيا، طعمها جيداً.
مارس هتلر جرائمه النازية باسم التفوّق العرقي الجرماني. ويمارس الإسرائيليون جرائمهم باسم التفوّق الديني. جعل هتلر من نفسه حارساً لحقوق شعب نصّب نفسه متفوّقاً على بقيّة شعوب العالم. ويجعل نتانياهو اليوم من نفسه حارساً لشعب يدّعي أنّ الله اختاره ومنحه أرض فلسطين. وكما كان يقول البابا شنودة بابا الأقباط في مصر يرحمه الله: “لقد جعل الإسرائيليون من الله سمسار عقارات ونصّبوه حارساً على باب هيكلهم”.
ندمت بريطانيا وإسبانيا على تجارة الاستعباد وأوقفتها منذ القرن التاسع عشر. ودفعت التعويضات إلى عائلات ضحاياها. وطوتا مع فرنسا والبرتغال صفحة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت ألمانيا سبقتها إلى ذلك بعد الحرب العالمية الأولى. وبذلك انتهى الاستعمار في العالم، لكنّه قائم في فلسطين وحدها.
حوّلت إسرائيل قطاع غزة بالقوة العسكرية إلى “غيتو” محاصر من البرّ والبحر والجوّ. وحوّلت الضفة الغربية إلى ما يشبه جنوب إفريقيا ثانية حيث مارست فيها كلّ أنواع التمييز العنصري والديني
تجمع إسرائيل اليوم بين الاستعباد والاستعمار الاستيطاني من حيث هو إلغاء للآخر. والآخر هو صاحب الأرض. ولا تعتبر إسرائيل نفسها دولة احتلال. ذلك أنّه إضافة إلى نظرية “الهبة الإلهية” المزعومة، تدّعي إسرائيل أنّها احتلّت الضفة الغربية من الأردن، ولم تكن الضفة دولة. وأنّها احتلّت غزة من مصر ولم تكن دولة. وبالتالي فإنّ سكان الضفة وغزة لم يكونوا شعباً. كانوا يقيمون في أرض ليست لهم، خصّصها الله لبني إسرائيل. ولذلك فهي ليست دولة احتلال، بل دولة مؤتمنة على تحقيق الوعد الإلهي وتجسيده.. وليس وعد بلفور. الله قبل بلفور وفوقه. بلفور كان بالنسبة للمشروع الصهيوني الاستيطاني مجرّد أداة بيد الله. فهو لم يعطِ ممّا لا يملك. وهو في الثقافة الدينية الإسرائيلية أعطى ما لله لأهل الله، وهم اليهود.
مشكلة إسرائيل أنّها فشلت حتى الآن في تسويق هذا المنطق عالمياً. فهي في القانون الدولي دولة احتلال تتمرّد على قرارات الأمم المتحدة وعلى المواثيق الدولية، وتعتبر نفسها فوق هذه القرارات والمواثيق لأنّها تتعارض مع مصالحها، وتالياً مع الإرادة الإلهية.
بالنسبة للقانون الدولي يُعتبر احتلال أرض الغير جريمة ضدّ الإنسانية، واستعباد شعب آخر جريمة أكبر.
لم يعد احتلال أراضي الغير ولم يعد استعباد الغير مقبولاً كما كان الأمر في القرون الغابرة. إنّ استمرار إسرائيل في سياسة الاستعباد والاحتلال لا يخفّف من وقع الجريمة تحت عباءة أنّها تتمّ باسم الله وتحقيقاً لمشيئته، كما تدّعي القوى الدينية المتطرّفة في إسرائيل التي تشارك نتانياهو في السلطة.
الإبادة الجماعية… باسم “الله”
العالم كلّه في وادٍ وإسرائيل وحدها في وادٍ آخر قيميّاً وأخلاقيّاً. ولذلك توغل إسرائيل في القتل الجماعي وفي التدمير الكلّي من دون أن يرفّ لها جفن. فهي لا تدّعي فقط أنّها ترتكب هذه الجرائم الجماعية باسم الله وتحقيقاً لمشيئته، لكنّها تدّعي أيضاً أنّها تحرّر بهذه الجرائم العالم من التطرّف الإسلامي.
تشاطر إسرائيل في هذا الاعتقاد الحركة الصهيونية المسيحانية في الولايات المتحدة، التي تنتظر العودة الثانية للمسيح، وهي التي توفّر لإسرائيل الغطاء الأميركي للجرائم الجماعية التي ترتكبها في غزة خصوصاً، وفي الضفة الغربية. وهي حركة دينية واسعة الانتشار وتتمتّع بقوة انتخابية مؤثّرة. كانت هذه الحركة مع الحزب الجمهوري الأميركي، ويحاول الرئيس الأميركي جو بايدن الآن استدراجها من خلال سياسة دعم إسرائيل وتأييدها عسكرياً وسياسياً وماليّاً إلى تأييد الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وتقف الولايات المتحدة الآن قاب قوسين أو أدنى من هذه الانتخابات.
بالنسبة لهذه الحركة السياسية – الدينية، فإنّ ما تقوم به إسرائيل من جرائم في غزة والضفة الغربية هو من مستلزمات إزالة العوائق التي تعترض العودة الثانية للمسيح. وبالتالي فإنّ المشكلة هي في وجود هذه العوائق وليس في إزالتها أو في طريقة إزالتها.
إقرأ أيضاً: انحسار الإسلاميّين واستمرار “الإسلاموفوبيا”
بموجب هذا المنطق الذي يفرض ذاته على الإدارة الأميركية الحالية، فإنّ المشكلة ليست في الاحتلال الإسرائيلي بل في الوجود العربي (الإسلامي والمسيحي).
بموجب هذا المنطق أيضاً لا يوجد احتلال إسرائيلي (لفلسطين) ولا استعباد لشعب آخر (الشعب الفلسطيني).
بموجب هذا المنطق يوجد شعب (فلسطيني) يعطّل تحقيق الإرادة الإلهية أو يؤخّرها.
من هنا الالتقاء التكاملي بين القوى الدينية المتطرّفة يهودياً في إسرائيل، وصهيونياً في الولايات المتحدة. وهي قوى فاعلة ومؤثّرة في الانتخابات الرئاسية التي أصبحت على الأبواب.