لماذا حرّك إردوغان الملفّ النوويّ التركي؟

مدة القراءة 7 د


يعود تاريخ اختراع وتطوير واستخدام السلاح الذرّي في العالم إلى ما قبل أكثر من 8 عقود. تحوّلت المسألة اليوم بالنسبة للعديد من الدول إلى هدف استراتيجي للانتقال إلى المرتبة “النووية” التي توفّر القوة والردع والردّ الاستباقي في مواجهة الآخرين. لذلك ستسعى الكثير من العواصم الطموحة والراغبة في الجلوس إلى طاولة التفاعل الإقليمي والدولي إلى مراجعة سياساتها وأهدافها العسكرية والأمنيّة ومحاولة امتلاك هذا السلاح، على الرغم من كلّ الاتفاقيات والمعاهدات الموقّعة حول حظر اللجوء إلى وسائل من هذا النوع كعنصر توازن وسدّ فراغ هجومي – دفاعي يعطي الدول ما تريده من حماية لمصالحها.

إلياهو كشف إسرائيل
فجّرت تهديدات وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو باستخدام سلاح الدمار الشامل ضدّ قطاع غزة نقاشات واسعة جديدة بشأن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي.
جاء ردّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان سريعاً حول الموضوع على الرغم من تصعيده المتدرّج ضدّ حكومة نتانياهو في غزة. إذ قال: “اتضح أنّنا نستمع إلى بيان رسمي حول وجود أسلحة نووية بيد إسرائيل”. وتابع: “أقول لنتانياهو: هل لديك قنبلة نووية أم لا؟ إذا كان كذلك فأعلن عنها، لكنّك لا تستطيع. أنت لديك قنبلة ذرّية، لديك قنبلة نووية، وتهدّد باستخدامها. أين المنظّمات الدولية؟ أين الوكالة الدولية للطاقة الذرّية؟ أين أجهزة التفتيش؟”.

فجّرت تهديدات وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو باستخدام سلاح الدمار الشامل ضدّ قطاع غزة نقاشات واسعة جديدة بشأن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي

هي ليست المرّة الأولى التي يدور فيها الحديث عن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي. ولم يكن العالم يحتاج إلى تصريح إضافي يصدر عن إلياهو. فهناك أكثر من مؤشّر ودليل حول المراحل التي قطعتها تل أبيب على الطريق “النووي”:
– الدعم الأميركي الأوروبي لإسرائيل اعتباراً من مطلع الخمسينيات لناحية تأهيل الخبراء وبناء المراكز وبيع الموادّ الأساسية.
– رفض تل أبيب التوقيع على اتفاقية عام 1969 الدولية والعديد من القرارات الأممية، خصوصاً قرارات عام 2009 وخطوة الجمعية العامة للأمم المتحدة 2022 بدعم أميركي وحياد أوروبي.
– تصريحات القيادات الأميركية وعلى رأسهم الرئيس جونسون ومواقفه عام 1961.
– اختبار عام 1979 النووي الإسرائيلي في المحيط الهندي بالتنسيق مع جنوب إفريقيا.
– استهداف تل أبيب لمفاعل تموز العراقي قبل 5 عقود ومراكز الأبحاث السورية قبل 6 عقود، وهما مثّلا رسالة رفض علني ومحاولة قطع الطريق على تفرّدها الإقليمي بامتلاك هذا السلاح.
– تهديدات إسرائيلية سابقة باستخدام السلاح النووي، “سلاح يوم القيامة” كما يسمّيه البعض في الداخل الإسرائيلي، عبر تحريك صاروخ “أريحا” العابر للقارّات والقادر على حمل رؤوس نووية.
– تسريبات المهندس مردخاي فانونو عام 1986 حول مفاعل ديمونا وامتلاك إسرائيل للتكنولوجيا النووية.
– ما أعلنه شيمون بيريز حول أهمية امتلاك السلاح النووي بالنسبة لإسرائيل لردع من يفكّر في استهدافها. كلّها مؤشّرات تؤكّد سياسة إسرائيل النووية وما وصلت إليه حتى اليوم.

ماذا يفعل إردوغان؟
ما الذي يدفع إردوغان إلى إطلاق مثل هذه المواقف وهو الذي كان يبحث عن فرص تهدئة وتطبيع مع تل أبيب قبل شهرين؟ وكيف سيتحرّك؟
يضع إردوغان الموقف التركي الرسمي فوق الطاولة أمام الجميع من شركاء وخصوم. يخاطب إردوغان نتانياهو، لكنّه يخاطب أيضاً من يدعمه في الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وبعض العواصم الأوروبية التي تتجاهل تلويح تل أبيب باستخدام العصا النووية.
إبقاء المسألة فوق الطاولة ليس هدف إردوغان فقط، بل هو بين قرارات قمّة الرياض الأخيرة. يريد إردوغان وهو ينسّق مع المجموعة العربية والإسلامية الفاعلة في الملفّ الفلسطيني وانطلاقاً من بيان الرياض الأخير أن تصبّ الجهود باتجاه تحويل بنود القمّة إلى خارطة طريق تتعامل مع الملفّ النووي الإسرائيلي أيضاً وما يحمله معه من أخطار تتطلّب توحيد المواقف للردّ.
تقوم استراتيجية تحرّك أنقرة على مطالبة المؤسّسات الدولية بالتفتيش السريع للأراضي والمراكز الإسرائيلية موضع الشبهات أوّلاً، وإلزام إسرائيل بتوقيع الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص ثانياً، إلى جانب مطالبة العواصم الغربية بتحديد مواقفها حيال سياسة إسرائيل النووية ثالثاً.
بإيجاز أكثر يسعى إردوغان إلى تحويل دعوة الوزير الإسرائيلي المتطرّف عميحاي إلياهو إلى فرصة اختراق سياسة الصمت والغموض الإسرائيلي حول امتلاك تل أبيب للأسلحة النووية.

قد تكون رسالة الرئيس التركي لإسرائيل حول سلاحها النووي، الذي من المفترض أنّها لا تملكه، موجّهةً إلى تل أبيب وحكومة نتانياهو أوّلاً. لكنّها أيضاً باتجاه العواصم الغربية التي سهّلت لإسرائيل الحصول على هذا السلاح تحت ذريعة إنشاء عنصر توازن وقوّة ردع إقليمي في مواجهة العشرات من دول المنطقة ثانياً.
بين أهداف إردوغان أيضاً رمي الكرة في الملعب الغربي وتحريك المجتمع الدولي في مواجهة سياسة إسرائيل النووية ودفعها نحو قبول التعاون مع المنظمات الدولية والالتزام بالقرارات الأممية الصادرة بهذا الخصوص.
يحتاج امتلاك السلاح النووي إلى القدرات والطاقات العلمية والمادّية والغطاء السياسي الدولي. حاولت تركيا منذ عام 1960 امتلاك هذه التكنولوجيا ووضعها في خدمة أهدافها العسكرية، لكنّ العقبة كانت دائماً أميركية. لعبت واشنطن ورقة الشراكة الأطلسية والغطاء العسكري الذي يوفّره الحلف لتركيا في مواجهة الأخطار التي قد تلحق بها، لكنّها أطلقت يد إسرائيل في هذا المجال لتتحرّك باستقلالية عسكرية وسياسية كي “تحمي” نفسها من التهديدات والمخاطر المحدقة. ربّما هذا أيضاً بين أهمّ الأسباب التي تقود إردوغان إلى الإعلان عن تدشين سياسة نووية تركية جديدة في المرحلة المقبلة.
يهدّد وزير التراث الإسرائيلي غزة اليوم باستخدام هذا النوع من الأسلحة ضدّها. ما الذي يحول دون تهديد أنقرة أو غيرها من العواصم العربية والإسلامية في المنطقة في حال توتّرت العلاقات وتأزّمت باتجاه التصعيد الأمنيّ والعسكري؟

وضعيّة القبول والنفي
تدرك القيادات الإسرائيلية جيّداً أنّ اللجوء إلى استخدام النووي في غزة ليس سهلاً لأنّ ارتداداته ستطال كلّ الأراضي الإسرائيلية. لكنّ هدف إردوغان هو إخراج تل أبيب من وضعية “القبول والنفي” لامتلاكها هذا النوع من السلاح وإلزامها بقبول امتلاك العشرات من الرؤوس النووية وإدراجها إلى جانب الدول التسع التي أعلنت رسمياً امتلاكها للسلاح النووي.
دعا أحد أبرز القيادات السياسية الإسرائيلية ورئيس الوزراء الأسبق يائير لابيد قبل عامين من على المنصة الأممية المجتمع الدولي إلى استخدام القوة العسكرية إذا طوّرت إيران أسلحة نووية. “الطريقة الوحيدة لمنع إيران من حيازة السلاح النووي هي في طرح تهديد عسكري ذي صدقية على الطاولة”، ووجوب “إبلاغ إيران بوضوح بأنّ الردّ العالمي لن يكون بالكلمات بل بالقوة العسكرية إذا طوّرت برنامجها النووي”.

إقرأ أيضاً: من برلين: إردوغان يوسّع دائرة المواجهة مع نتانياهو

قد لا يكون بين أهداف تحريك ملفّ “الغموض النووي” الإسرائيلي تبرير سياسة تركية نووية جديدة ردّاً على خطر السلاح النووي الإسرائيلي الهادف إلى قلب التوازنات العسكرية في المنطقة لمصلحة إسرائيل. والرئيس التركي لا يبحث حتماً عن أسباب إضافية تبرّر لطهران مواصلة سياستها النووية، والمسألة أهمّ من طرح سؤال حول من سيقف إلى جانب أميركا بعد الآن في مواجهة إيران وهي تحاول التغطية على إسرائيل نووياً. أنقرة لن تتردّد في اللجوء إلى سياسة نووية جديدة مع الدول التي تملك هذه التكنولوجيا من أجل الحصول عليها ودخول النادي النووي الإقليمي، إذا ما شعرت أنّ المجتمع الدولي يتجاهل سياسة إسرائيل النووية ويتمسّك بتضييق الخناق على البعض مقابل إطلاق يد آخرين.
ليس في الأمر دفاعٌ عن سياسة إيران النووية. نحن نتحدّث هنا عن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين: هل يطبَّق هذا الموقف على إسرائيل أيضاً من قبل المجتمع الدولي بعد كشف الوزير الإسرائيلي عن أسرار بلاده النووية أم لا؟

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…