كيف تصير دولة ما قوّة عظمى؟

مدة القراءة 9 د

أثار مجدّداً غزو روسيا لأوكرانيا في شباط 2022 مسألة صعود القوى العظمى وهبوطها. فهل ما يشهده العالم هو حقّاً هبوط لقوة عظمى (الولايات المتحدة) وصعود لأخرى (الصين بالاستناد إلى روسيا)، كما كان الحال عام 1987 حين صدر الكتاب الشهير لـ بول كينيدي: “صعود القوى العظمى وسقوطها The rise and fall of the great powers”؟

في ذلك الحين، كان الاتحاد السوفيتي أيام ميخائيل غورباتشوف يخوض مغامرة “البيريسترويكا” (إعادة البناء). فتمكّن غورباتشوف من الهدم ولم ينجح في إعادة البناء. تفكّك القطب الجيوبوليتيكي الآخر، وانحسر البديل الأيديولوجي الممكن، فتربّعت الولايات المتحدة على عرش الصدارة.

قد تكون أوروبا قوة عظمى في القضايا التي تتطلّب العمل بشكل جماعي، ومجموعة من القوى المتوسّطة والصغيرة بشأن القضايا التي لا تستطيع التعامل معها. أمّا وصف روسيا بالقوّة العظمى المطلقة فيتطلّب الكثير من تقليب المفهوم نفسه وتمديده

مع ذلك، فإنّ التحدّي الروسي والصيني – المتناغم – للقطب الأميركي، هو محطة مهمّة تستحقّ البحث مجدّداً، وإن كانت الظروف لا تتشابه، والمقارنة لا تستقيم بين ما كان عليه الاتحاد السوفيتي من ترهّل وتراجع مطلقين، وما هي عليه اليوم الولايات المتحدة من تراجع نسبي في نقاط القوة والامتياز على سائر الدول، وعلى أقرب منافسيها تحديداً.

ثمّة تغيّر نسبي حقيقي في موازين القوى اقتصادياً، لمصلحة الصين، من دون تربّعها على رأس القائمة بعد، ومن دون مؤشّرات إلى تفوّق الصين تكنولوجياً على الولايات المتحدة. فضلاً عن ذلك، وباعتبار أنّ الولايات المتحدة ما زالت قوة جاذبة لأصحاب المهارة والكفاية والمواهب، ولا تعاني من نقص ديمغرافي كالذي تعاني منه روسيا وبقيّة أوروبا، ولا تشكو من تضخّم سكاني واختلال جندري (بين الذكور والإناث)، كما هو حال الصين، ولديها استثمار عالٍ في العلوم والتكنولوجيا، وتفوّقها العسكري نابع من مجمل العوامل السابق ذكرها، فهل يمكن القول إنّها تخسر مكانتها الأولى أمام دولة شمولية هي الصين، منعزلة جغرافياً، ومنغلقة قومياً، وتطوّرها الاقتصادي والاجتماعي، بؤر منفصلة عمودياً، لا يسري أثره بالتوازي على البرّ الشاسع؟

هناك مؤشّرات إلى انفضاض بعض الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة عنها، واقترابهم من الصين، أو بروز توجّه متصاعد للتخلّي عن الدولار كعملة عالمية قمينة بحفظ القيمة الشرائية نسبياً، وإنفاذ عقود التداول والتبادل في أيّ مكان. لكن هل فقدت دورها ولا بديل، أو مكانتها ولا نظير؟

تلك أسئلة جدّيّة كما هو الكلام عن تعدّد الأقطاب، وفقدان أميركا بعض مميّزاتها وجواذبها، استناداً إلى معطيات صلبة، وإنّما تبقى مؤشّرات ومعالم قد تنقلب إلى مسارات خطّية من دون ارتداد نحو الغاية التاريخية المحتومة.

معايير القوّة العظمى

يتجدّد النشاط في المجال الأكاديمي لدراسة هذا الأمر واستشراف آفاقه. وتُطرح الأسئلة القديمة نفسها: ما الذي يجعل دولة ما قوة عظمى؟ ما أسباب الصعود وما عوامل الهبوط؟

وباستقصاء ما يُكتب في هذا المجال، تبدو المعادلة عموماً على الشكل التالي:

الدولة العظمى 

– جغرافيا واسعة بما تتضمّنه من ديمغرافيا وازنة وثروات دفينة

– + اقتصاد صناعي متطوّر مع طاقة تصديرية عالية

– + قدرة عسكرية متقدّمة من كلّ النواحي التصنيعية، والتدريبية، والتخطيطية

– + أيديولوجية جاذبة توفّر التماسك القومي في الداخل والجاذبية والاستتباع في الخارج.

فلو قارنّا بين الاتحاد السوفيتي (السابق) والولايات المتحدة، لوجدنا أنّ المواصفات كانت متقاربة إلى حدّ ما:

– فالاتحاد السوفيتي محصّن بنفسه بامتداد جغرافي هائل في آسيا وأوروبا، وتضاف إليه دول حلف وارسو في أوروبا الشرقية.

ثمّة حالة خاصة تستحقّ الفحص، وهي الصين. فهذا البلد الكبير، اعترفت به الدول الأخرى قوّة عظمى بمجرّد تحرّره من الاحتلال الياباني بنهاية الحرب العالمية الثانية، حتى لمّا كان بلداً زراعياً متخلّفاً

– والولايات المتحدة شبه قارّة، محاطة بامتداد مائي هائل بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ. ولا تتوفر لأيّ دولة في العالم قوّة بحرية يمكن أن تهزّ أمنها، بأيّ مقدار.

التوازن الجيوبوليتيكي قائم بين القوّتين. لكنّ الكفّة كانت تميل إلى المعسكر الغربي بقيادة واشنطن، على نحوٍ خاصٍّ بسبب الحيوية الاجتماعية في بلدانه، وقوّة المبادرة الفردية، وهو ما سمح باستثمار الاكتشافات العلمية والابتكارات التكنولوجية، أكثر من المعسكر الشرقي بأشواط بعيدة.

العنصر الأهمّ أنّ الأيديولوجية الشيوعية فقدت بريقها مع الوقت، وخسرت معركة كسب العقول والقلوب. أمّا الأيديولوجية الرأسمالية فبرعت في تجميل مساوئها، وفي تطوير قواها الناعمة، وفي تدجين الرأي العام عبر وسائل الدعاية والإعلام والترفيه.  

كيف “تصعد” الدول و”تهبط”؟

يحاول الخبراء الإجابة عن السؤال الجوهري: متى يصبح بلد ما قوّة عظمى ومتى يتوقّف عن أن يكون كذلك؟ وهل تتغيّر المعايير مع الزمن؟ فما كان من أسباب القوة في زمن ما لا يكون بالضرورة صحيحاً في زمن آخر؟

بول كينيدي ناقش هذه المسألة تحديداً قبل أربعة عقود تقريباً، فأرسى المعادلة التالية:

– “النموّ الاقتصادي المَقود بتطوّر تكنولوجي وتنظيمي، يسمح ببناء جيش قويّ. والجيش القويّ يتيح توسيع نفوذ الدولة في المجال العالمي، على شكل إمبراطورية غالباً. هذا هو طريق الصعود. أمّا طريق الهبوط، فمناطه الاقتصاد أيضاً، لكن بطريقة عكسية. فعندما ينوء الاقتصاد بأعباء الدور الإمبريالي في العالم، والتكلفة العالية في مواجهة المتمرّدين والمنافسين، تكون هذه القوة العظمى على طريق الانحدار الحتمي.

لكنّ باحثين آخرين يختلفون مع كينيدي. بالنسبة إليهم ليس النمو الاقتصادي هو بالضرورة المعيار الأساسي لعظمة الدولة، أو انحدارها إن عانت اقتصادياً. وكمثال، ظهرت اليابان وألمانيا، خاصة بعد الحرب الباردة، بقوّتهما الاقتصادية المنافسة لسواهما ممّن هم أقوى منهما عسكرياً بمراحل. وحتى في المجال الاقتصادي، إن كان بلد ما ينمو اقتصادياً أسرع من منافسه الافتراضي، فسيتفوّق عليه في نهاية الشوط. والأهمّ أنّه لا توجد معايير ثابتة لتصنيف الدول، ولم تسنح الفرصة لنقاش جدّي للمعايير والاعتقادات في هذا المجال، في خضمّ التنافس السوفيتي الأميركي إبّان الحرب الباردة. وكأنّ السقوط المفاجئ للاتحاد السوفيتي أدّى إلى إهمال النظر الأكاديمي في تعيين العوامل وتثبيت المعادلات.

نمت قوّة الصين بالتأكيد في العقدين الماضيين، وهي تمارس نفوذاً إقليمياً أكبر، وقد تكون قوة عظمى في بعض القضايا، وقوة إقليمية في قضايا أخرى

حالة خاصّة: الصين

إلى ذلك، ثمّة حالة خاصة تستحقّ الفحص، وهي الصين. فهذا البلد الكبير، اعترفت به الدول الأخرى قوّة عظمى بمجرّد تحرّره من الاحتلال الياباني بنهاية الحرب العالمية الثانية، حتى لمّا كان بلداً زراعياً متخلّفاً، منقسماً على نفسه، ويعاني من حرب أهلية شرسة بين الحزب القومي والحزب الشيوعي. وهذا قد يدلّ على نقطة مهمّة في ما يجعل بلداً ما قوّة عظمى. إنّه اعتراف الآخرين بأنّ هذا البلد هو كذلك. لا يمكن إغفال المعايير المادّية والأيديولوجيّة. لكنّ تسليم الدول الأخرى بموقعها ودورها، عنصر جوهري، إن لم يكن في التحوّل إلى قوة عظمى، فعلى الأقلّ، في احتفاظ هذه القوة العظمى بمكانتها وسط منافسة شديدة لا يستهان بها، وقد يكون هذا هو حال الولايات المتحدة.

– يطرح مايكل مازارMichael Mazarr  رؤية مختلفة في ما تعنيه القوة العظمى، فيقول إنّ الأمم لا تتفوّق في مجال المنافسة، اعتماداً بشكل رئيسي على التكنولوجيا أو القدرات العسكرية أو حتى بإملاء إرادتها على الآخرين في كلّ أزمة أو حرب. بل إنّ القوى العظمى ترتكب أخطاء، وتخسر حروباً، وتفقد حلفاء، وحتى إنّها تخسر تفوّقها العسكري. إنّ الأساس هو مميّزات المجتمع:

1- خصائص الأمّة التي تستولد الإنتاجية الاقتصادية.

2- التجدّد التكنولوجي.

3- التماسك الاجتماعي.

4- والإرادة القومية.

معالم القوة الداخلية هي أسس النفوذ العالمي. فكثير من الطموح القومي يوصل إلى استنزاف الطاقة، كما أنّ قلّة الطموح والتشتّت وانعدام الإرادة تدخل في الدائرة السلبية لأيّ أمّة. وينبغي الموازنة بين هذه العوامل.

يرى مازار أنّ هناك نقصاً في كثير من الجوانب التي رفعت مكانة الولايات المتحدة في النصف الأخير من القرن العشرين. ولا بدّ لها من أن تستعيد أفضليّتها التنافسية، وتتغلّب في تقابلاتها مع روسيا والصين: عليها أن تغذّي الصفات التي تجعل القوى العظمى دينامية، ومتجدّدة، ومتكيّفة.

على مستوى آخر، نظرت أبحاث جديدة إلى المسألة من وجهة مختلفة تفكيكية. فبعض الدول هي قوى عظمى في قطاع معيّن لا على نحوٍ شامل: روسيا والمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تمارسان نفوذاً في أسواق النفط لا يتناسب مع حصّتهما من المؤشّرات الأخرى لقوّة الدولة، من الناحيتين العسكرية والاقتصادية. هما قوّتان عظميان من حيث إنتاج النفط، وليس من دون تحفّظات. ذلك أنّ ممارسة تلك القوّة في مجال إنتاج النفط تتقاطع مع شبكات أخرى من القوّة. فبيع النفط يفترض التعامل مع الشبكات المالية الدولية، حيث للولايات المتحدة الهيمنة، واستعمال شبكة نقل الطاقة، وللصين أسطول الناقلات الكبير، وللولايات المتحدة قدرة لا مثيل لها على المراقبة والتحكّم في خطوط الاتصال البحرية الدولية. كذلك يمكن وصف تايوان بأنّها قوة عظمى في إنتاج أشباه الموصلات، والصين قوّة تصنيع عظمى. وتُعدّ فرنسا قوّة دبلوماسية عظمى، غير متوازية مع قدرتها العسكرية وحجمها الاقتصادي.

إقرأ أيضاً: 

لكنّ توزيع القوّة بين الدول في حالة تغيّر مستمرّ. لقد نمت قوّة الصين بالتأكيد في العقدين الماضيين، وهي تمارس نفوذاً إقليمياً أكبر، وقد تكون قوة عظمى في بعض القضايا، وقوة إقليمية في قضايا أخرى. قد تكون أوروبا قوة عظمى في القضايا التي تتطلّب العمل بشكل جماعي، ومجموعة من القوى المتوسّطة والصغيرة بشأن القضايا التي لا تستطيع التعامل معها. أمّا وصف روسيا بالقوّة العظمى المطلقة فيتطلّب الكثير من تقليب المفهوم نفسه وتمديده.

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…